ملاحظـات على قضـية التنويـر ومنهج البحث فى الفقه الإسلامى 2
د.أحمد البغدادي
.. مقدمـــــة ..
لدينا واحدة من الاشكاليات الهامة؛ إذا لم يتنبه لها الباحث: فإنه قد يضيق على نفسه دائرة البحث؛ وقد يخرج عن منهجه العلمي ـ بل والأمانة العلمية. وخلاصة هذه الاشكالية تكمُن في السؤال التالي: هل من الدقة أن نُخضع مذاهب الفقه الإسلامي إلى حكم عام مطلق. وأن نصف تلك المذاهب جميعا بالرجعية؛ وأنه لا مفر من تنحيتها فى مجال البحث واستنباط الأحكام؟. أو أن ننعت هذا المذهب بالتعصب ضد غير المسلمين؛ أو ذاك المذهب بالتطور؟.
بالطبع هناك مجموعة من العوامل والسمات الخاصة؛ التى ميزت كل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامى. ومن ذلك: عوامل نشأة المذهب ـ أثر البيئة الاجتماعية والسياسية المُحيطة به ـ الاتجاهات الفقهية والتوجهات السياسية التى عُرِفت عن إمام المذهب وكبار أصحابه وتلاميذه ـ الأصول التي يتبعها فقهاء المذهب في استنباط الأحكام الشرعية...
بعض تلك العوامل ـ وغيرها ـ كانت قد تسببت في وقوع الخلاف بين المذاهب الفقهية؛ فى الكثير من المسائل. ومنها تلك الخلافات التى تتعلق بموقف كل مذهب من المجتمع والدولة. ما رأيك ـ عزيزى القارىء ـ أن أحدثك عن فكرة " الثنائيـة "؛ ونقصد بها تحديدا: " ثنائية الدولة والجماعة ". والخلاف حول الأحكام التي تدخل في سلطة الدولة؛ والأحكام التي تُعتبر حقا لجماعة المسلمين. في هذا الإطار: كان قد وقع الخلاف بين المذاهب؛ بل وبين الفقهاء داخل المذهب الواحد.
.. عـزيزى القـارىء ..
سأنطلق معك من هذه المقدمة إلى عرض بعض الأفكـار
حول تفسير اختلاف الفقهاء
فى مسألة المساواة الحقوقية والعقابية
1ـ سنتوقف عند أكثر من تطبيق. أما مدخل هذا التطبيق فهو: البحث فى موقف الفقهاء من مفهوم " دار الإســـلام ". وهو الموقف الذى يعكس الخلاف الفقهى حول ثنائية الدولة والجماعة ـ التى أشرنا إليها. وبالتحديد مرةً أخرى: خلافهم حول المسائل التى تدخل فى سلطة الدولة؛ وتلك التى تُعتَبر حقا للمسلمين وجماعتهم. وأما سبب التوقف عند هذا التطيبق: فهو تأمل جوانب المنطق في مفهوم دار الإسلام عند الفقهاء المسلمين. وثمة فائدة أخــرى هي: البحث في العلاقـــة بين هذا الإطــار المكاني ـ وهو دار الإسلام؛ ومبدأ المساواة والحماية الحقوقية من جهة أخرى.
سنبدأ بالمذهب الحنفي؛ ونلاحظ اختلاف أئمة وكبار فقهاء المذهب ـ أنفسهم ـ حول مفهوم دار الإسلام:
i. دار الإسلام عند شيخنا أبي حنيفة ـ إمام المذهب الحنفي: هي المكان الذى يأمن فيه المسلم على نفسه وماله. ويتحقق ذلك بانعقاد الولاية للحاكم المسلم. ومنطق شيخنا أبي حنيفة في هذه المسألة: أن الأحكام الشرعية تدور مع الخوف والأمان. ويمكننا أن نعبر عن ذلك الرأي بالقول: إن تطبيق الأحكام مرتبط بالأمان الذى يحيا الفرد في نظامه؛ وهو الأمر الذى لا يتحقق ـ عنده ـ إلا في دولة يحكمها المسلمون.
ii. أما عند صاحبي أبى حنيفة ـ وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن: فإن دار الإسلام هي المكان الذي يكون فيه حكم الإسلام ظاهراً. ويترتب على ذلك: أنه لا عبرة بانعقاد الولاية الفعلية في هذا المكان للحاكم المسلم. وبعبارة أخرى: يكون حكم الإسلام ظاهرا في مجتمعٍ بعينه بالنظر إلى النفوذ الذى تمتلكه جماعة المسلمين في هذا المكان؛ مُقارنةً بنفوذ الجماعات الأخرى. وقد يرتبط نفوذ جماعة المسلمين بعدد أفرادها؛ أو نفوذها الاجتماعي... بالقدر الذى يُمكِّن جماعة المسلمين من الاحتفاظ بعقائدهم؛ والجهر بشعائرهم التعبدية؛ وتطبيق أحكامهم الشرعية فيما بينهم.
2ـ ويمكننا صياغة الخلاف الذى عرضنا له بطريقة أخرى. وأن نوجزه في السؤال التالي: هل ظهور حكم الإسلام وشرائعه وأحكامه ـ فى أحد الاقاليم ـ يرتبط بالضرورة بوجود السلطة أو الولاية الإسلامية. وبمعنى آخر وجود الحكام المسلمين أصحاب الولاية العامة؛ فى ذلك الإقليم؟. أم قد يتحقق ظهور الإسلام ـ على النحو المذكور ـ بوجود الجماعة المؤمنة؛ التي تتمكن من تطبيق الأحكام الشرعية؛ فى غياب الحاكم المسلمة. وذلك بما تمتلكه تلك الجماعة من قوة ونفوذ؛ في زمانٍ ومكانٍ مُحددين؟.
في البداية ـ ومن ناحية المنهج ـ لدينا ملحوظة هامة. ومن المُفيد أن نضمها إلى الملحوظة التى افتتحنا بها هذا المقال. وأن نتجنب بذلك جميعه مساوئ الأحكام المُطلقة على هذا المذهب أو ذاك. وخلاصة هذه الملحوظة: أنه لا يمكن الإدعاء بأن أحد المذاهب الفقهية كان قد تبنى موقف الدولة في كافة آرائه. وأن مذهب آخر كان قد انحاز إلى جماعة المسلمين في كل أحكامه. وإنما كانت آراء كل مذهب فقهى خليطا بين هذه المواقف. وذلك نتيجةً لمجموعة من العوامل؛ والتي سبق وأن أشرنا إلى بعضها في الفقرة السابقة.
لقد عرضنا فيما مضى بعض آراء شيخنا أبى حنيفة وأصحابه فيما يتعلق بمفهوم دار الإسلام. وسنلاحظ فى موضعنا هذا: أن آراء الشافعي ـ فيما يتعلق بمفهوم دار الإسلام ـ كانت أكثر اقترابا من فكرة الجماعة أو جماعة المسلمين. وهو ما سنعرضه على النحو التالى:
i. ذلك أن ولاية الإسلام في مذهب الشافعية: هي " ولايـة حُكميـة ". ومُقتضاها: وجود علاقة مُعينة بين الفرد؛ وبين جماعة المسلمين. وتنشأ هذه العلاقة إذا كان الفرد مســلما أو كان ذميـــا. وجه ارتباط المسلم بجماعة المسلمين ـ بالطبع ـ هو الديانة. أما وجه ارتباط الذمى بتلك الجماعة فهو دخوله فى ذمة المسلمين. هذا عن المسلم والذمي عند فقهاء الشافعية؛ فماذا عن المُستَأمَن أو الأجنبي؟.
ii. فيما يتعلق بالمُستَأمَن أو الأجنبي: سنلاحظ في هذا الموضع ـ أيضا ـ ذات الفكرة التي كان الشافعية أقرب إليها من غيرهم؛ ونقصد بها فكرة الجماعة. وطبقا لمذهب الشافعية: فإن منح الأمان لغير المسلم أو الأجنبي يدخل ـ أول ما يدخل ـ في سلطة الجماعة؛ أي جماعة المسلمين. وهو الأمان ـ أو الإذن ـ الذى يترتب عليه السماح للأجنبي بدخول دار الإسلام والإقامة فيها؛ والتمتع بحُرمة نفسه وماله خلال إقامته. 57
3ـ عزيزي القارئ: تلك كانت خلاصة الآراء الفقهية حول مفهوم دار الإسلام؛ وعلاقة الأحكام الشرعية ـ كما لاحظنا ـ بفكرة المكان. وهى الفكرة التي لا يجوز فصلها عن البحث في المواطنة؛ وما تقرره من حقوق وحماية قانونية للأفراد. وتشكل تلك الآراء مَبحثا في الفقه الإسلامي؛ له ما يقابله فى فقه القانون الوضعي. وهو المُبحث الذى يدرس فيه الباحثون: نطاق تطبيق الأحكام الشرعية ـ أو قواعد القانون ـ من حيث المكان؛ ومن حيث الزمان والاشخاص.
هل تريد ـ عزيزي القارئ ـ التعرف على نتائج هذا الخلاف في بحثنا هذا؟. لدينا مجموعة من التطبيقات؛ تتعلق بفكرة المكان؛ وأثره على الحماية القانونية المُقررة للفرد. أرجو أن تتأملها على ضوء الفلسفة التي تقوم عليها؛ والمنطق الذى تستند إليه. وأرجو أن تلاحظ فيها فكرة المكان أو النطاق المكاني؛ وهل تم التقيد بها؛ أم أن الأمر كان قد خضع للتطور. إليك ـ عزيزي القارئ ـ التطبيق التالى:
تطبيق 1
o ماذا لو ارتكب أحد الرعايـــا المسلمين أو الذميين جريمته في دار الحـــرب وليس في دار الإسـلام؟. الجـواب عند فقهـاء الأحنـــاف: أنه لا عقاب عليه، حتى إذا رجع إلى دار الإسلام. وذلك لأن العبرة عند الأحناف هو وقت ارتكاب الجريمة. ولم يكن الفاعل ـ فى ذلك الوقت ـ يخضع لسلطة الدولة. وبمعنى آخر: فإن الولاية الإسلامية على الفاعل ـ وقت ارتكابه للجريمة كانت مُنعدمة.
o أما جـواب الشافعيـــة: فإن الفاعل يُعاقب بعد رجوعه إلى دار الإسلام، بشرط أن تكون الجريمة ثابتة عليه. وذلك لأن الفاعل وقت ارتكابه للجريمة كان يخضع لسلطة جماعة المسلمين؛ وهى الجماعة التي كانت تحارب في دار الإسـلام. هل لاحظت ـ عزيزي القارئ ـ كيف يتجزأ مفهوم " جماعة المسلمين " ؛ تبعا لاختلاف المكان. وهل تأكدت من عدم ارتباطه دائما بوجود ولاية أو سلطة فعلية للحاكم المسلم؟.
4ـ سنحاول النظر للخلاف الفقهي المذكور من زاوية جديدة. وهى المحاولة التى نقترب بها من فلسفة الحماية المُقررة للأفراد والجماعات في الفقه الإسلامي. يقوم منطق الحماية القانونية ـ في أفكار أبى حنيفة على فكرة " الولاية الفعلية ". وتفسير ذلك أن أبا حنيفة كان قد اهتم بالرابطة بين السلطة الحاكمة من ناحية؛ والأفراد والجماعات الخاضعين لها من ناحية أخرى. ويترتب على تحقق الولاية الفعلية إمكانية تنفيذ أحكام الشـريعة أو القانـون. وإذا توافرت هذه الإمكانية: فإنه يمكن البدء في الحديث عن الحماية القانونية للأفراد والجماعات.
السؤال: كيف تتحقق الولاية الفعلية أو الرابطة بين السلطة الحاكمة؛ وبين الأفراد والجماعات؟. لدينا في فقه الإمام أبى حنيفة: ثلاثة شروط: وجود الحاكـم المســـلم في الإقليـــم.
الإقامة الدائمة للفرد في هذا الإقليم ـ التـزام الفرد بتنفيذ حقوق الله تعالى.
هناك إشكالية تتعلق بالشرط الأخير؛ وهو التزام الفرد بتنفيذ حقوق الله تعالى. إن ارتكاب الفرد جريمة من جرائم الحدود ـ كالسرقة والزنى يُعتبر إخلالا منه بهذا الشرط؛ مما يستوجب عقابه. وذلك لأن جرائم الحدود ـ من حيث المبدأ ـ تغطى هذا الجانب أو ذاك من حقوق الله تعالى. الإشكالية هنا: كيف يمكن تطبيق الشرط الثالث ـ الذى اشترطه شيخنا أبو حنيفة ـ في الواقع؟. إن اشتراط التزام الفرد بتنفيذ حقوق الله تعالى هى مسألة تتعلق بالإيمـان. وذلك لأنها ترتبط بعقيدة المسـلم. وإن إلزام غير المسلمين بهذا الشرط يصطدم بمبدأ حرية الاعتقـاد.
من المنطقي أن ينتهى الإمام أبو حنيفة إلى نتيجة بعينها؛ وهى إعفاء الأجنبي المُقيم في دار الإسـلام من هذا الشرط؛ وذلك إذا لم يكن يدين بالإسـلام. يمكنك أن تضع موقف أبى حنيفة الأخير بين مواقفه التى دافعت عن حرية الاعتقاد. مع ملاحظة أنها تنطوي على تمييز في العقاب؛ لمصلحة الأجنبي الذى لا يعتنق دين الإسلام.
ومع ذلك أرجو ـ عزيزى القارىء ـ أن تتمهل قبل إطلاق هذا الحكم. ذلك أن الذمي لا يستفيد من التمييز المذكور؛ الذى يتمتع به الأجنبى غير المسلم؛ على الرغم من أن كلا منهما لا يدين بالإسلام. ينبغى ـ إذن ـ البحث عن الفكرة؛ التى كانت قد أثرت في آراء شيخنا أبى حنيفة في المسألة التى بين أيدينا.
أما الفكرة: فهي أن الذمي يتمتع بالإقامة الدائمة في دار الإسلام؛ بينما لا يحصل المُستَأمَن الأجنبي إلا على الإقامة المؤقتة. منطق أبى حنيفة: أن التزام الفرد بالأحكام الشرعية يجب أن تؤسس على طبيعة الإقامة ـ المُقررة له ـ في دار الإسلام. وهى الإقامة التي يتم السماح بها وتنظيمها بواسطة سلطة الدولة؛ وليست بالاعتماد على السلطة التى تتمتع بها جماعة المسلمين.
يمكنك القول ـ عزيزي القارئ ـ إن أبا حنيفة كان أقرب إلى فكرة النطاق المكاني في تطبيق الأحكام الشرعية. ولدينا المزيد من التفاصيل حول هذه المسألة؛ وسنلاحظ فيها كيف أن فكرة المساواة القانونية كانت أوسع نطاقا عند صاحبى أبى حنيفة. وذلك لأنهما لم يميزا بين الأجنبى غير المسلم؛ وبين الأجنبى المسلم؛ فى العقاب على جرائم الحدود. وسنلاحظ كيف أن اختلال المساواة أو انتظامها ـ بين الأحناف ـ لم يكن يستند إلى مسألة الديانة؛ بل إلى طبيعة الإقامة فى دار الإسلام.
تطبيق 2
o ماذا لو ارتكب المُســـتَأمَن أو الأجنبـي إحدى الجرائــم في دار الإسـلام؟. يرى أبو حنيفة أن المُستَأمَن ـ أو الأجنبي غير المسلم ـ لا يُعاقب على جرائمه التي تقع على حقوق الله تعالى. ويقصد بذلك جرائم الحـدود؛ وأهمها السرقة والزنى. أما كل جريمة تقع منه على حقٍ من حقوق العباد: فإنه يُعاقَب عليها أسوةً بغيـره من الرعايـا.
o ومع ذلك استثنى أبو حنيفة جريمة القذف: إذ كان يرى أن المُستَأمَن يُعاقب عليها. وذلك على الرغم من أن جريمة القذف تدخل ضمن جرائم الحـدود. وأما حُجته في ذلك: أنه يُشترط للمُعاقبة على جريمة القذف: أن يتقدم المجنى عليه بالدعوى فيها. وإن هذا القيد ـ على نظر الدعوى فى جريمة القذف ـ يفسر لنا الاستثناء الذى وضعه أبو حنيفة في هذه المسألة.
o أما عند صاحبي أبى حنيفة: فإن المُستَأمَن يخضع للعقاب في جميع الجرائم؛ سواء كانت الجريمة قد وقعت على أحد حقوق العباد؛ أو كانت حدا من الحدود وكان حق الله تعالى فيها هو الغالب. ومن هذه الحدود: حد السرقة... وهكذا فإنه لا عبرة عند الصاحبين بطبيعة الإقامة المُقررة للمُستَأمَن أو الأجنبي. إن مجرد الإذن للأجنبي بالإقامة ـ ولو كان إذنا مؤقتا ـ يُلزمه بالأحكام الشرعية المُطبقة في دار الإسلام.