ابعاد المؤامرة علي السودان

عبد الناصر السر حسن

 

 

الموقع الجغرافي الفريد للسودان في قلب افريقيا  كجسر  بين العرب والافارقة واراضيه الخصبة المترامية الاطراف وثرواته الزراعية والحيوانية والمعدنية كالذهب واليورانيوم  وامتداد سواحله علي البحر الاحمر جعله منذ وقت بعيد محط اطماع الدول الغربية .. ومنذ ما قبل استقلاله تكاثرت عليه المؤامرات بتفجير اول تمرد جنوبي تقوده حركة (الانانيا ون) الانفصالية عام 55 وهو التمرد الذي ما ان يخفت اوزاره حتي يشتعل من جديد والذي ادي في النهاية الي انفصال الجنوب والذي ضمن كحق في اتفاقية نيفاشا برعاية مايسمي بالمجتمع الدولي، ومازالت حلقات التآمر تتوالي لتشعل اطراف البلاد مرة اخري في الغرب وفي الشرق  وفقا لنظرية شد الاطراف  بعد انهاك المركز في معارك لاتنتهي .

 

الذي يحدث الان في السودان  كان قد تم التمهيد له باكراً .. عبر اذرع استخبارات اقليمية ودولية ومنظمات مايسمي بالمجتمع المدني والتي تم عبرها اختراق التنظيمات السياسية في البلاد من اقصي اليمين الي اقصي اليسار عبر التمويل وشراء الكوادر بالاستقطاب والتوظيف في المنظمات المحلية والاقليمية والدولية حتي انشئت مجموعات كاملة تدين بالولاء لاجهزة استخبارات ومنظمات دولية وشركات معولمة وجماعات مشبوهة . الصراع بدأ باكرا منذ اواخر حكم نظام البشير والذي تورط وورط البلاد في صراع المحاور الاقليمية بترنح نظامه بين محور السعودية/الامارات وقطر تركيا  كلما استحكمت الأزمات حول النظام واوشك علي السقوط تحت ضغط الحركة الجماهيرية .

 

وضع الامريكان عبر  حلفائهم في الداخل وفي المحيط الاقليمي ثلاث سناريوهات محتملة  لنهاية نظام البشير :

1_ عبر ثورة شعبية تطيح بالنظام وتؤدي الي تغيير جذري في سياسات البلاد وتوجهاتها .

2_ عبر اتفاق سياسي بمشاركة قوي معارضة لتوسيع قاعدة النظام وتجنب سقوط غير متحكم فيه (خارطة طريق امبيكي ومبادرة ليمان) وهو ماوافقت عليه كل قوي المعارضة عدا الحزب الشيوعي السوداني .

3_ عبر ثورة شعبية متحكم بها تشابه الثورات الملونة التي اجتاحت المنطقة العربية حال فشل الخيار الثاني .



بالتاكيد الخيار الاول مرفوض تماما، وتم التحول الي الخيار الاخير حين لاحت في الافق بوادر انتفاضة جماهيرية واسعة يمكن ان تطيح بالنظام"

 

نجاح مواكب 18 يناير 2018 كان إشارة كاشفة للقوي الدولية بآن النظام يترنح واصبح سقوطه قاب قوسين او ادني. وكان علي المحاور ان تتدخل لكبح جماح التغيير من الوصول الي غاياته الاخيرة ولجمه، لحصر التغيير في كابينة القيادة فقط مع استمرار ذات النظام وذات سياساته دون اي مساس بطبيعته وهي ذات احابيل الطبقة في كل الثورات الماضية وذات تكتيكاتها في قطع خط الثورة ومنعها من الوصول الي غاياتها  بتبادل الادوار منذ فجر تاريخ الاستقلال.

 

انتصار الثورة المضادة بدأ منذ استدراج الثوار وسحبهم من تروسهم في شوارع الخرطوم وكل مدن السودان الي ترس الاعتصام امام القيادة العامة .. وتحويل الثورة الي مجرد حالة احتجاجية تطالب بتنحي رأس النظام. سحب الثوار من شوارع المدن سمح بأن تجري مياه الهبوط الناعم من تحت اقدام الثوار :

- بتدخل رأس المال المحلي والاقليمي والدولي في محيط الاعتصام وكانت كعب اخيل الثورة وبدآت لعبة الاعلام  والتمويل في التحييد والتلميع والايقنة.

- سحب الثوار من الشوارع اعاق الثورة من الوصول الي مراميها الحقيقة وتحقيق مطالبها الجذرية  في التغيير واعاق الثوار من ابتداع اشكال حقيقية لادارة كامل البلاد من خلال تجارب فريدة في النضال كان كفيلة بنقل الحركة الجماهيرية الي ذري شاهقة .

 

" تم التحضير لوراثة النظام حال سقوطه بتكوين الحواضن الاجتماعية  للتغيير المتوقع وتجهيز القوة العسكرية التي ستطيح بنظام البشير تحسباً لأي احتمالات غير متوقعة بتدخل القوات القوات المسلحة السودانية "

 

 وصل عدد منظمات المجتمع المدني في السودان عام 2020 حسب احصائيات مفوضية العمل الطوعي الي 3000 منظمة تتلقي معظمها تمويل من منظمات دولية خارجية بمثابة أذرع للمخابرات امثال (USAID وفريدريش ايبرت) وانتشرت التنظيمات الشبابية التي تتلقي التمويل والتدريب في الداخل والخارج  في اوكار المخابرات مثل معاهد جين شارب وافرعها في صربيا وتونس وعدة اقطار اخري، امثال "شرارة"  و"كفاية"  و"قرفنا"  و"التغيير الان"  وكلها تحمل شعار قبضة اليد الشهيرة. وقد لعبت دور كبير في استقطاب اعداد مقدرة من الشباب عابرة للتنظيمات السياسية من اقصي اليمين لاقصي اليسار لتجرد الاحزاب من معظم كوادرها الشبابية وتحقنها بالافكار الليبرالية .

 

" في ذات الوقت الذي كان يتم فيه تحضير القوة المدنية التي ستحتل المسرح السياسي كان يتم تحضير قوة اخري ستلعب الدور الرئيسي في الاطاحة بنظام البشير وهي ماعرفت بقوات الدعم السريع "

 

 ورغم انشاء قوات الدعم السريع في 2013 من قبل نظام البشير لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور وحماية نظامه الا ان اخطر تطور حدث لقوات الدعم السريع وادي الي تطور ضخم في قدرات القوات المالية والفنية والعسكرية كان الاستعانة بها في حرب اليمن والتعاون المباشر بينها وبين الاتحاد الاوروبي لوقف الهجرة غير الشرعية (ماعرف حينها بعملية الخرطوم ) والتي كانت الغطاء لعملية التمويل والتدريب والتاهيل والامداد باسلحة متطورة من قبل الاتحاد الاوربي رغم سجل هذه المليشيا الإجرامي في مجال انتهاكات حقوق الانسان وادانتها من قبل المنظات الدولية . عمليات التمويل هذه اضافة الي سيطرة القوات علي منطقة جبل عامر وعمليات تهريب الذهب الي دبي (تقدر بي 30 طن سنويا علي اقل تقدير ) ادت الي وصول اعداد هذه القوات الي 160 الف مقاتل وسيطرتها علي حوالي 50% من الناتج القومي الاجمالي للبلاد وتحولها الي اخطبوط موازي للقوات المسلحة .

 

عشية سقوط البشير كانت المحاور الدولية برعاية الامارات قد قامت بإنشاء شبكة واسعة من التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتجمعات المهنيين ومنظمات شبابية ونشطاء ومجموعة رأسمالية مرتبطة ( بمو ابراهيم وجورج سورس) ومجموعات صحفيين ومحللين وصناع رأي ومدونيين ومواقع ومجوعات الكترونية وملايين الحسابات الوهمية في الوسائط تدار عبر شركات متخصصة وقنوات فضائية وشخصيات تم تحضيرها بعناية داخل منظمات الغرب واجهزة استخباراته لتجهيز بديل يرث نظام البشير بكل توجهاته مع تغيير كابينة القيادة فقط .

 

بالرغم من صراع اليسار المرير والممتد مع نظام الانقاذ منذ بدء الانقلاب في 89 والذي استمر 30 عاما حسوما ورفضه اي حلول وسط او مساومة مع النظام بما فيها رفض خارطة طريق امبيكي ومبادرة بريستون ليمان وانتخابات 2020 ومناداته باسقاط النظام فقط كحل جذري للتغيير الا ان الاحداث التي تلت موكبه في 16 يناير والذي فجر الاحداث المتلاحقة التي اطاحت في النهاية بنظام البشير اثبتت بأن اليسار لم يكن يمتلك اي خطة او بديل للسيطرة علي الاوضاع ومواصلة قيادة الاحداث حتي بعد توقف قوي اليمين في محطة المساومة مع لجنة البشير الامنية وافلت من يده لحظات مفصلية كان يمكن أن تقلب الاوضاع رأساً علي عقب إن اصر علي مواقفه برفض الحوار مع جنرالات البشير بعد مذبحة فض الاعتصام ولأتاح له الرفض قيادة الشارع ولجان المقاومة بطرق مغايرة بعيداً عن مخططات قوي الحرية والتغيير المنصاعة تماماً للأجندة الخارجية ولكن عدم امتلاك البديل والرؤية الواضحة للتغيير والاصرار علي العمل الجبهوي خشية العزلة السياسية والانسياق وراء مبادرات الجماهير العفوية والتي تحتاج الي لجم في بعض اللحظات التاريخية ادت الي سيطرة قوة الحرية والتغيير علي كامل المشهد السياسي وفتح البلاد علي مصرعيها امام التدخل الخارجي بشكل فظ وغير مسبوق والموافقة علي كامل برامج المؤسسات المالية الدولية والاتجاه نحو سياسة التطبيع مع العدو الصهيوني بعد تراث ضخم من العداء للدولة الصهيونية و المشاركة في كل معارك الامة ضدها .