الراهن العربي من العدد الرابع - حتى تاريخ 9 يناير 2023
مجلة اشتباك عربي
في ختام عام ٢٠٢٢، أفاد تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) الذي صدر في الأيام الأخير للعام، ارتفاع "مستويات الفقر في المنطقة العربية في عام ٢٠٢٢ مقارنة بالسنوات الماضية ليصل عدد الفقراء إلى ما يقرب من ١٣٠ مليون شخص، أي ما يمثل ثلث سكان المنطقة العربية، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي وليبيا، وذلك وفقا لخطوط الفقر الوطنية". إضافة لذلك، توقع التقرير "أن تستمر (معدلات الفقر) في الارتفاع خلال العامين المقبلين لتصل إلى ٣٦٪ في عام ٢٠٢٤. أما فيما يخص البطالة، فأفاد التقرير أن المنطقة العربية سجلت "أعلى معدّل بطالة عالميا في عام ٢٠٢٢ بنسبة ١٢٪"[1].
اللافت أن التقرير يتوقع أن تشهد "اقتصادات المنطقة العربيّة نموا بنسبة ٤.٥٪ في عام ٢٠٢٣ و٣.٤٪ في عام ٢٠٢٤، إلا أن معدلات الفقر ستستمر بالارتفاع، برغم هذا النمو وبرغم توقع انخفاض التضخم من ١٤٪ عام ٢٠٢٢ الى ٨٪ و٤.٥٪ على التوالي خلال العامين القادمين. أيضا، برغم هذا النمو، فإن التقرير لا يتوقع انخفاضا ملموسا في معدلات البطالة (فقط من ١٢٪ حاليا وهي النسبة الأعلى في العالم الى ١١.٧٪ في العام القادم). هذا يعني أن المعضلة الأساسية هي في النموذج الاقتصادي السائد في المنطقة العربية، وأن الاستمرار في تداول الأخبار عن ارتفاع معدلات النمو وتوقعات بارتفاع معدلات النمو في المستقبل، هي جزء من الدعاية والتضليل. حال الوطن العربي الراهن المرعب، كما يشير له التقرير على الأقل في حالتي النسبة العالية للفقر (ثلث السكان خارج مجلس التعاون الخليجي) ومعدلات البطالة (١٢٪) الأعلى في العالم، يؤكد أن التكامل بين العدوان الخارجي والسياسات الاقتصادية المحلية (المفروضة من الخارج بتعاون الشرائح المتنفذة والمرتبطة مصلحيا بالخارج) هي استمرار لحالة الحروب الدائمة التي تشن على الوطن العربي.
مقدمة: الحروب المستمرة على العرب
خلال القرن الماضي، لم تتوقف الحروب (وليس الحرب) المتعددة الأشكال والجبهات (عسكريا، اقتصاديا، سياسيا، ثقافيا) على الوطن العربي مطلقا، وشاركت فيها أساسا الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، لدرجة أن الوطن العربي تعرض منذ الحرب العالمية الثانية لأعلى نسبة تواتر للحروب والعدوان العسكري على وجه الأرض. فمنذ نكبة فلسطين، ذات العلاقة المباشرة بنتائج الحربين العالميتين، حتى اليوم لم تتوقف الحروب على أمتنا حتى عاما واحدا. على العكس، كنا نشهد باستمرار حروب كبرى كل عقد تقريبا، يمكن النظر إليها بأثر رجعي الآن على أنها كانت محطات لحصاد النتائج السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية للحروب المستمرة علينا (نكبة فلسطين ١٩٤٨، الحرب على الثورة الجزائرية ١٩٥٤، العدوان الثلاثي في حرب السويس ١٩٥٦، حرب اليمن ١٩٦٢، النكسة ١٩٦٧، غزو لبنان ١٩٧٨ و١٩٨٢، غزو وتدمير العراق ١٩٩١ و٢٠٠٣).
ومنذ مطلع القرن الحالي، شكل الوطن العربي أيضا منطقة للتدخل العسكري الإمبريالي الغربي، عدى عن الأشكال الأخرى للحروب، لا مثيل لها في عالم ما بعد الحرب الباردة - الغزو الأمريكي الهمجي للعراق مرتين وبنتائج كارثية[2]، العدوان الصهيوني الهمجي على لبنان ٢٠٠٦، الحروب المستمرة على فلسطين وحروب عسكرية شبه سنوية على غزة، حروب الناتو ووكلائه العرب على ليبيا، حروب الولايات المتحدة والإمبريالية الغربية والكيان الصهيوني ووكلائهم الإقليميين والمحليين المستمرة على سورية منذ ٢٠١١، حروب دول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية أخرى مدعومة من واشنطن والغرب الامبريالي على اليمن المستمرة منذ ٢٠١٥.
لكن منذ غزو العراق في ٢٠٠٣ بدأت تتضح وتتكشف حقيقة ومعالم وطبيعة الحروب على الوطن أكثر مع تطور الجيل الجديد من الحرب (وليس المقصود هنا تقنيات الحرب، بل أهدافها). فكما ذكرنا مرارا في اشتباك، يظهر جليا أننا أمام فئة غير تقليدية، بل ومختلفة من الحروب تعرف بـ "الحرب المستمرة" أو "الحرب الدائمة" (كما سماها الأكاديمي العربي علي القادري). وهذه الحروب لا تستهدف تحقيق النصر العسكري التقليدي بهزيمة الخصم، أو حتى تحقيق نتائج سياسية عميقة الأثر كتغيير الأنظمة السياسية واستتباعها فقط، كما هي العادة في الحروب التقليدية. بل، إن هدف هذه الحروب هو إنتاج دول ومجتمعات عربية (وجنوبية أيضا) فاشلة بشكل دائم ومستدام، من أجل تأمين بعيد المدى للتنظيم الاستراتيجي للإقليم القائم يضمن المصالح الإمبريالية الغربية في بلادنا في المستقبل، ويضمن وجود الكيان الصهيوني كذراع متقدمة وضاربة للإمبريالية الغربية. فالتنظيم/ الترتيب الاستراتيجي للإقليم هو شرط استدامة مصالح الإمبريالية الغربية ووجود الكيان الصهيوني من جهة، وأيضا وجود وتحقيق مصالح القوى/ الشرائح الاجتماعية المتنفذة في الوطن العربي التي تلتقي في مصالحها وأمنها الطبقي مع مصالح العدو الغربي والصهيوني.
لهذا لا يبدو لنا في اشتباك لغزا على الإطلاق أن بعض الدول العربية التي لم تتعرض كغيرها لحملات مستمرة من العدوان العسكري الهمجي، بل وحتى تعتبر أنظمتها حليفة للولايات المتحدة وبينها وبين الكيان الصهيوني معاهدات "سلام" كالأردن ومصر ليست بأقل فشلا مستداما من الدول الأخرى التي تتعرض لعدوان مستمر. فالحروب على هذه الدول تأخذ شكل الحروب الاقتصادية، أو "التنمية المعكوسة" التي تنتج عن تطبيق السياسات التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد. فهذه الإستراتيجيات التي لم تنتج تنمية حقيقية في أي دولة نفذت سياساتها على الإطلاق، تعمل وبشكل فعال ومنهجي على اجتثاث قدرات وإمكانيات الوطن العربي على النمو (انظر "التنمية العربية ممنوعة: آليات التراكم عبر الحروب العدوانية"). فمراجعة ما حصل في وللوطن العربي خلال العقود الخمسة الماضية فقط، وهي عمر اختراق النيوليبرالية لبلادنا تشي بأن الوطن العربي خَضَعَ (أو أخْضِعَ بالقوة غالباً) لعملية تنمية معكوسة (Dedevelopment) عبر تجريده من قدراته وإمكانياته على النمو. وتاريخ التنمية المعكوسة في الوطن العربي هو، هو، تاريخ النيوليبرالية في بلادنا.
كل المؤشرات الاقتصادية (الفقر طويل الأمد، ارتفاع معدلات البطالة ومستويات اللامساواة، تدفق الموارد الحقيقية والمالية، الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان الأساسية من قبل الأنظمة والاستعمار العسكري لفلسطين، العدوان العسكري الغربي المستمر على بعض الأقطار العربية، وغيرها الكثير مقارنة بالمعايير العالمية) تؤكد أن ما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية هو "عملية تفكيك متعمد ومنهجي لقدرة الوطن العربي" على التحول هيكلياً وبالتالي اجتثاث قدرته على النمو. وفوق ذلك كله، لم يتعرض الوطن العربي مثل باقي دول الجنوب لعملية كلاسيكية من إنتاج التخلف (underdevelopment) فقط، ولم يتعرض للتبعات المتوحشة التقليدية لنماذج ووصفات النمو المفروضة من البنك الدولي وصندوق النقد (طرد آلاف الفلاحين من الأرض وتحويلهم ليد عاملة رخيصة تبحث بيأس عن عمل)، كما لم يعاني فقط مما سماه روي ماورو ماريني "الاستغلال الفائق". إضافة لكل ذلك، وخلال قرن كامل، كان الوطن العربي ساحة حروب لا تتوقف ولم تكن الإمبريالية الغربية تنظر لبلادنا إلا من منظار البندقية والطائرات الحربية.
والحرب (العسكرية في هذه الحالة) ليست مجرد الوجه العنيف والوحشي لرأس المال فقط، بل هي أيضاً أحد آليات تراكمه (فرضية "المجمع الصناعي العسكري" لتفسير الحروب الغربية على بلادنا تبسيطية جداً طبعاً، إن لم نقل سخيفة، مثل فرضية اللوبي، لأنها تتجاهل فكرة الطبقة الحاكمة والنخبة الحاكمة في المجتمعات الإمبريالية الغربية، وتتجاهل ترابط مصالح رأس المال والشركات في المنظومة الرأسمالية، وحتى تظهر قاصرة في فهم جوهر فكرة رأس المال. فبرغم وجود مثل هذه التجمعات فعلا (لا يمكن إنكار وجود وفعالية اللوبي وشركات السلاح)، إلا أنها يجب أن تفهم كأدوات حكم للطبقات الغربية المهيمنة، وليست مؤسسات ومراكز ضغط بلا جذور وبلا ارتباطات اجتماعية- اقتصادية). الحروب المتتالية في وعلى وطننا العربي كانت دوماً آلية دمجه في منظومة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، والأهم كانت الآلية التي أعادت تشكيل وتطويع الطبقات المهيمنة (المهزومة) في الوطن العربي، كما يحصل عادة بعد كل حرب، وفق مصالح الغرب ووفق شروط الهزيمة. في المحصلة تفرض الحرب على المهزوم دائماً شروطها، وهكذا فقد الوطن العربي تدريجياً سيادته وحتى أساسيات مفهومه للأمن القومي (المعنى الحقيقي للتنمية)، عبر إخضاعه لسياسات نيوليبرالية متوحشة أنتجت ظروف معيشية مرعبة في بعض الأقطار العربية.
هذه الخلفية تفضح وتعري الشكل الآخر للحروب التي تشن على أمتنا من قبل "منظري" الديمقراطية الليبرالية في بلادنا. فما معنى الديمقراطية في هذا السياق الكبير حين تصادر كل القرارات المهمة وتوضع في عهدة المؤسسات الدولية في الخارج (البنك الدولي وصندوق النقد والمفوضية الأوروبية).هذه ديمقراطية الطبقة المهزومة التي تتشارك في الأمن الطبقي (المصلحي) مع العدو الخارجي، وتضع شعبها فقط أمام اختيار من ينفذ تعليمات الخارج وشروط الهزيمة فقط ويتنازل عن السيادة الوطنية، ولا تؤسس لصعود من يملك برنامج سيادة وطنية. الديمقراطية الليبرالية في هذا السياق ليست إلا حربا من نوع آخر، أو امتدادا للحروب الأخرى التي تشن على أمتنا، والتنظير لها هو جزء من غزو أيديولوجي كاسح تعرض له وطننا العربي منذ هزيمة ١٩٦٧ وتَصاعد أكثر مع الحملة الغربية الأخيرة المسماة "الربيع العربي" منذ ٢٠١١. وهذا الغزو الأيديولوجي يستهدف فرض عبودية مقنعة بموافقة الطرف المستعبَد تُستثمر فيها عادة الهزائم العسكرية لإعادة تشكيل الوعي العربي وقبوله بهذه المكانة. وهذه الخلفية ضرورية أيضا لأنها تفسر لحد سياق الأزمات المتصاعدة والمتجددة خلال الأشهر الماضية، وتفسر حال الوطن العربي الراهن كما سنجمله باختصار.
-مصر
قد يكون تفكيك المنظومة "الاشتراكية العربية" (كما اصطلح على تسميتها لتوصيف محاولة التنمية المستقلة وفق النموذج العالمثالثي السائد حينها) في مصر بعد حرب عام ١٩٦٧، وإعادة تشكيلها وفق شروط الهزيمة هو أنجح المشاريع الإمبريالية الغربية في الوطن العربي منذ الحرب العالمية الثانية على الإطلاق، هذا عدى عن أنها تكشف تكامل الدور الذي يقوم به العدو الصهيوني عسكريا والمشاريع الإمبريالية الغربية في بلادنا. فإعادة تشكيل/ تركيب المنظومة الكلية في مصر، التي تشكل المركز السياسي والثقافي والسكاني الأهم للوطن العربي، لم تكن سياسية واقتصادية وعسكرية فحسب، بل كانت أيضًا أيديولوجية/ ثقافية. هذه الحروب متعددة الأشكال والجبهات التي شنت على مصر، وبلغت ذروتها في الهزيمة العسكرية القاسية للعرب في عام ١٩٦٧، أسست البنية التحتية للساداتية كنموذج استعماري جديد كلي من التبعية والتنمية المعكوسة، ويبدو أنها قد ألهمت الاستراتيجيات الإمبريالية اللاحقة في الوطن العربي، لا سيما في السياسات الغربية والصهيونية تجاه سورية.
سياسياً، لم تفصل الساداتية مصر عن المعسكر الاشتراكي والشرقي حينها للانضمام إلى المعسكر الرأسمالي الأمريكي المضاد دوليًا فحسب، بل تخلت أيضًا في نفس الوقت عن دورها القيادي في حركة عدم الانحياز والوطن العربي، وانفصلت في النهاية بحدة عن الإجماع العربي ووقعت معاهدة سياسية منفردة مع العدو اللدود السابق، "إسرائيل". من الناحية الاقتصادية، لم تبادر الساداتية لتفكيك النموذج "الاشتراكي العربي" فقط، بل بدأت أيضًا وبشكل منهجي في تبني وتنفيذ المشروع المناهض له تماما بالعمل على لبرلة الاقتصاد تدريجيًا. فلقد بدأ السادات مشروع تفكيك قطاع عام نشط وناجح نسبيا بشكل ملحوظ أسست له التجربة السابقة، أنتج وفق كل المؤشرات زيادة كبيرة في معدلات الفقر وتزايد اللامساواة، انخفاض ملحوظ في متوسط إنتاجية العمال ومعدلات نمو الوظائف (بسبب المنظومة الاقتصادية النيوليبرالية). عسكريا، لم تقم الساداتية ببساطة بالتحول للعتاد العسكري الأمريكي، لكن كان يتوقع أن تتأثر أيضا العقيدة العسكرية للجيش كمؤسسة بما يتطابق مع نوعية التسليح. وطبعا تضافرت كل هذه التغييرات، وغيرها، مع غزو أيديولوجي كاسح بلغ ذروته بفقدان إيديولوجية المقاومة العربية (العروبة) التي مثلتها المنظومة الكلية السابقة، فظروف الهزيمة وشروطها القاسية في الحالة المصرية لم تنتج الساداتية فقط، بل واستولدت معها فكرها وثقافتها ومثقفيها أيضاً.
كل ذلك وعلى مدى عشرات السنين كان يعيد تركيب التشكيلة الاجتماعية بما يتضمن وجود شريحة غربية الهوى والمصالح تشكل امتدادا للغرب الامبريالي في بلادنا. على هذا النحو، تُمثل مصر ما بعد ١٩٦٧ نموذجًا مثاليا، أو مختبرا، لتفسير الكثير عن الحروب متعددة الجبهات على الوطن العربي، لا سيما بعد ٢٠١١. لهذا، ففهم النموذج المصري تحديدا أمر حاسم في تصور وفهم طبيعة الحرب الشاملة غير المسبوقة على سورية، مثلا، كما سنرى، بهدف خلق نموذج ساداتي سوري قاومته سوريا برغم هزيمة حزيران ١٩٦٧. كان العدوان العسكري الصهيوني عام ١٩٦٧، المسؤول الأول عن إنجاب نموذج السادات، لكنه أخفق في مصرنة سورية ساداتيا، رغم أنه لا يزال يحاول حتى لو كلف الأمر التسبب بمجاعة غير مسبوقة في بلاد الشام.
بعد خمسين عاما من السياسات النيوليبرالية أصبحت الظروف في مصر صعبة جدا، خصوصا حال الطبقات الشعبية التي تشكل الغالبية من المواطنين، وبعد خمسين عاما من الالتزام شبه الكامل بكل ما يصدر عن واشنطن والمؤسسات المالية الخاصة بهذا النموذج، لا يبدو أن هناك أفقا حتى للتشكيك بهذا النموذج برغم تراكم الاختلال بين الادخار والاستثمار، بين النمو الأجوف وفرص العمل المنخفضة، بين انخفاض القدرات الصناعيةـ الإنتاجية والثروة. وطبعاً، لا تزال الطبقة المتنفذة في الاقتصاد والسياسة ترفض حتى نقاش دور القطاع العام، وترفض حتى مجرد عقد مقارنة بين النموذج الراهن والسابق. فأي مقارنة ستكشف بلا أدنى شك أن مصر تعرضت على مدار خمسين عاما لاستهداف واستنزاف كبيرين، وأريد لها أن تكون النموذج الذي يُتَّبَعْ في باقي أقطار الوطن العربي بسبب مكانتها ومكانها ودورها.
وفيما تحتاج مصر، بالتالي، لرؤية جذرية جديدة وإعادة توجيه شاملة للسياسات لإنقاذها (حرفيا) من الأزمة الخانقة والمستعصية التي تمر بها، يستمر النظام بتكرار نفس وصفات النموذج الذي أسس لهذه الحالة عبر اللجوء مرة أخرى لقروض البنك الدولي ذات الشروط القاسية، التي أصبحت تمس حتى بالسيادة (طالما أنك تنفذ سياسات وتلتزم بشروط مؤسسات خارجية، أو "دولية" كما يحلو لها أن تسمي نفسها، متعلقة مباشرة بأساسيات حاجات المواطن ورغيف خبزه، وسعر العملة الوطنية، فهذه قضية أمن قومي بامتياز).
والقرض الأخير الذي تم الاتفاق لحصول مصر عليه (يقارب ٣ مليار دولار) بشروط قاسية جدا، ليس فقط لن يستطيع حتى المساهمة في حل أي من المشكلات المستعصية، أو أن يوقف بعض النزيف، بل سيتسبب بالمزيد. فوفق متطلبات وشروط الاتفاق مع البنك الدولي سيزداد انسحاب الدولة من الاقتصاد. فبناءً على شروط القرض، أصدرت الحكومة المصرية، بعد موافقة الرئيس، "وثيقة سياسة ملكية الدولة" التي تحدّد ٦٢ من الأنشطة الاقتصادية، التي ستنسحب الدولة منها لصالح القطاع الخاص. الجديد أن هذا الانسحاب سيؤثر هذه المرة على الدور الذي كانت تلعبه مؤسسة الجيش في الاقتصاد، وبالتالي ستخسر الدولة العائدات الاقتصادية التي كان يتحصل عليها الجيش. تدريجيا قاد النموذج النيوليبرالي بالتأسيس لتفكيك الدولة بانسحابها من الاقتصاد، وهو ما يفسر تراجع قدرة الدولة على توفير حتى جزء من وسادة الحماية التقليدية للطبقات الشعبية وذوي الدخل المنخفض والمتوسط، وتدريجيا لن تستطيع الدولة القيام بدورها التاريخي (سواء الإيجابي والسلبي).
ولأن مشروع قانون قناة السويس الضبابي المقترح على مجلس الشعب جاء في هذا السياق، فإن القلق الكبير من الإقدام على خصخصة قناة السويس التي تجلت بوضوح في المواقف الشعبية في مصر والوطن العربي محقة. فعدى عن الأهمية الاقتصادية لقناة السويس، فإن الحساسية الشعبية العربية تجاه قناة السويس لها خصوصيتها. فمكانتها ورمزيتها الهائلة في الوجدان العربي كرمز تحرري واستقلالي منذ تأميمها من جهة، والتضحيات الهائلة التي قدمها الشعب العربي في مصر لبنائها أولا، وتأميمها لاحقا، ثم تحرير ضفتها الشرقية في عملية بدر المجيدة في تشرين/ أكتوبر ١٩٧٣ لا تجعلها مجرد شركة أخرى أو مرفق اقتصادي آخر يمكن لأي سلطة أن تخاطر بخصخصتها، على الأقل دون توقع نقمة ورد فعل عربي (وليس مصري فقط) غاضب جدا لمكانتها في الضمير العربي.
لهذا، ما يمكن رؤيته من تجريف للحياة السياسية في مصر، حتى أكثر من المرحلة السابقة، ربما يتزايد وسيكون أخطر إذا تم استهداف دور الجيش، لأن شروط القرض الجديد تؤسس لذلك فعلا. لكن الجدل الذي دار حول مشروع قناة السويس هو جدل سياسي للأسف أساسا، ويعبر عن طبيعة الاصطفافات القائمة سواء بين أقطاب الطبقة الحاكمة (الجدل الذي دار بين بعض أقطاب النظام أو استغلال هذه القضية في الخلافات البينية)، أو الجدل الذي أثارته بعض أطراف المعارضة للنيل من النظام وليس حرصا على القناة - طبعا هناك بالتأكيد مواقف جذرية لقوى مصرية متعددة (حتى من داخل النظام) حذرت من مخاطر الإقدام على تلك الخطوة.
في المقابل، دأب النظام، الذي يدرك تبعات القروض على الدولة وعلى الحياة السياسية والاقتصاد. (بغض النظر عن الديباجة التي قدمتها الحومة لتبرير وتسويق "وثيقة سياسة ملكية الدولة")، محاولة الالتفاف على بعض تبعات السياسات المتبعة تنفيذا لشروط البنك الدولي عبر اقتطاع قسم من دخل القناة وتأسيس صندوق آخر. وهذه الصناديق الخاصة تتيح مزايا للنظام كتلك التي كان يتيحها له الجيش، فهي ليست تحت الرقابة ولا تدخل ضمن الميزانية العامة التي من المفترض أن تخضع ليس فقط لرقابة مؤسسات الدولة، بل والبنك الدولي أيضا (وفق شروط البنك ومحاولة فرض وصاية على الاقتصاد). لكن هذا المخرج للإفلات من بعض شروط الصندوق الدولي لا يمكن أن يشكل حتى أساسا لحل. فالمزيد من الاستدانة، كما يشير البيان المالي للموازنة العامة للدولة للعام المالي ٢٠٢٢- ٢٠٢٣، جعلت خدمة الدين (٦٩٠ مليار جنيه أو ما يعادل ٣٧ مليار دولار) إضافة إلى قيمة الأقساط واجبة السداد من الدين المحلي والخارجي (٩٦٥ مليار جنيه، أو ما يعادل ٥٢ مليار دولار) تتجاوز إجمالي الإيرادات العامة (تريليونو517.9 مليار جنيه أو ما يعادل 81.6 مليار دولار) بأكثر من سبع مليارات دولار.
المسار الذي فرض على مصر، خصوصا في الاقتصاد، منذ منتصف السبعينات لم يصل إلى حائط مسدود فقط، ولكنه أسس لازمة اقتصادية- اجتماعية مستعصية.
-سورية
لم تتوقف الإدارة الأميركية منذ أكثر من اثني عشر عاما من اجتراح وسائل جديدة وقاسية لقتل السوريين. آخر فصول الحروب الهمجية على سورية التي تهندسها وتقودها الولايات المتحدة مباشرة هو ما يسمى "قانون الكابتاغون" الذي تم إقراره في الكونغرس ووقع عليه الرئيس نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٢.[3] هذا القانون يشكل استكمالا لقانون قيصر الذي أقر قبل ثلاثة أعوام وأسس لعقوبات قاسية جدا. والقانون الأخير الذي وقعه بايدن، أرفق برسالة إلى عدة وزارات (الخارجية، الدفاع، الخزانة، إدارة مكافحة المخدرات، الاستخبارات، وكل الوكالات الفيدرالية ذات الصلة) للعمل على صياغة استراتيجية سيتم تقديمها للكونغرس وتنفيذها خلال ١٨٠ يوما، وهذا يتضمن فرض عقوبات على الدول والمؤسسات والشركات والأشخاص التي تتعامل مع الدولة السورية.
جوهر هذا القانون ليس أقل من إعلان حرب تجويع على كل من يقطن أراضي الجمهورية العربية السورية الواقعة تحت سيطرة الدولة. ففي هذه الأيام تمر سورية بأسوأ وأصعب كارثة معيشية عرفتها في التاريخ الحديث، ويحاصر ويُحرَم السوريون من أبسط الحقوق في الغذاء والدفء والدواء والحركة، ويبدو أن الهدف الأساسي هو معاقبة كل مواطن عربي سوري حتى الموت، وتهديده، حرفيا، إما بالإبادة أو الاستسلام. واستخدام هذا السلاح ليس جديدا، وإن كان يأخذ أبعادا متطرفة وهمجية أكثر من السابق. فبذريعة ما سمته إدارة نيكسون الأميركية في ١٩٧١ "الحرب على المخدرات"، تم شن حملة وحرب على الفقراء والأقليات لإخضاعهم داخل الولايات المتحدة، لا تزال بعض أدواتها وسياساتها قائمة حتى الآن، وتم لاحقا تعميمها لتبرير التدخل وممارسة الضغوط والترهيب على دول أخرى، تحديدا في أميركا اللاتينية.
أما في سورية، فبالإضافة للتجويع، أو التهديد بالقتل بالتجويع، يستهدف القانون صناعة الأدوية السورية أيضا، رغم كل ما تعرضت له أثناء الحرب على الدولة والشعب، وهو ما سيفاقم من عذابات المرضى ويزيدها صعوبة. فبحجة هذا القانون سيتم محاصرة صناعة الأدوية ومنعها من استيراد المواد الضرورية للصناعة، عدى عن زيادة الحصار على محاولات الدولة لتوفير الأجهزة الطبية أيضا. أول ضحايا هذا القانون الإجرامي سيكون مرضى السرطان والأمراض المستعصية.
الجانب الآخر والمهم فيما يجري في وعلى سورية هذه الأيام هو الصمت العربي شبه المطلق، وتحديدا الصمت الشعبي العربي الذي لا يمكن أن يبرر بعد انكشاف ما حصل فيما يقارب اثني عشر عاما من الحروب بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا ومشاركة فعالة من الكيان الصهيوني، تركيا، وبعض الأنظمة العربية. فما يجري في سوريا، حرفيا، ليس أقل من حرب إبادة تجري أمام أعيننا جميعا، وتتجاهلها الصحافة والإعلام، هذا حتى لا نذكر من يروج لها من الإعلام العربي. لكن الصمت الشعبي لم يعد مبررا. ما يحصل اليوم في سوريا هو برسم كل عربي أينما كان، وإذا أرادوا لأهلنا في سوريا أن يموتوا جوعا، فإن كل عربي مسؤول وعليه أن يعرف أن أضعف الايمان في هذه المرحلة لن ينقذ طفلا من الموت، ومن سيكتفي بمشاهدة أطفال سوريا يموتون جوعا وحصارا وعقوبات على الشاشات، عليه أن يعرف أن آخرين سيُشاهدون أطفاله يموتون بنفس الطريقة في المستقبل.لهذا فإن الدفاع عن سوريا اليوم هو دفاع عن أطفالنا في كل مكان في المستقبل.
-لبنان
لا يزال المشروع الأميركي (الغربي) الصهيوني لاستهداف المقاومة في لبنان مستمرا، بل وتتطور أدوات الحصار والعدوان على كل لبنان، وتحديدا البيئة الحاضنة للمقاومة، للنيل منها. المقاومة اللبنانية شكلت عبر السنين نموذجا فريدا ومتميزا من المقاومة استطاع بوجوده إحداث خلل كبير في موازين القوى، مما عطل (بالحد الأدنى) قدرة الإمبريالية الغربية والعدو الصهيوني وحلفاءهم في المنطقة العربية من تنفيذ مشاريعهم بالهيمنة والإخضاع والنهب والخراب، هذا عدى عن الدور المهم الذي يلعبه حزب الله في فلسطين وإسناده للمقاومة الفلسطينية (بالإضافة لكونه نموذجا للمقاومة وحجة بنجاحه لاستمرارها) ودورها المهم في نصرة سوريا في مواجهة الحروب الشرسة على الجمهورية العربية.
الاستهداف الأميركي والصهيوني وحلفاءهم "العرب" للمقاومة الإسلامية في لبنان خصوصا، واستهداف محور المقاومة عموما، يزداد شراسة. وبمعزل عن قوة المقاومة وجديتها، إلا أن شراسة الاستهداف تفترض من كل العرب (من المحيط الى الخليج) ليس فقط عدم ترك المقاومة وحيدة، ولكن مناصرتها بكل السبل والأدوات الممكنة، لأن صراعها مع العدو (الغربي- الصهيوني وحلفاءه العرب) هو نيابة عن كل العرب وأهل المنطقة.
الإنجاز الأخير للمقاومة المتمثل بالترسيم الحدودي البحري، خصوصا وفق الصيغة والطريقة والآليات التي تم بها، يشير الى جدوى المقاومة الهائلة. فلولا وجود المقاومة وقوتها لما استطاعت الدولة اللبنانية الوصول الى مرحلة الترسيم وفق الشروط والطريقة التي تمت بها -لا مفاوضات مباشرة، لا اتفاق سياسي، لا اعتراف بالكيان الصهيوني. هذا طبعا لم يكن ممكنا لولا قوة وحضور المقاومة من جهة، حتى لا نقول إن مجرد قبول الكيان الصهيوني بالترسيم (على الأقل وفق الصيغة التي تم بها) كان سيكون مستبعدا، وكان الكيان سيمارس رياضته المفضلة بالسطو على ثروات العرب ونهب خيرات بلادهم. وفي المقابل أعلن حزب الله موقفه الجذري من رفضه حتى لفكرة وجود الكيان بحد ذاتها، وتأكيده على أن الثروات الغازية والنفطية جنوب جنوب لبنان هي ملك للشعب الفلسطيني (وطبعا يتوجب تحريرها كجزء من تحرير فلسطين)، حتى لا يحصل أي التباس أو حتى لا يقوم أعداء المقاومة بالمزايدة عليها (وبعضهم قام فعلا بذلك رغم سكوتهم على التطبيع العلني الذي تقوم به أنظمة عربية حليفة وحتى ممولة لهم). لكن توظيف زخم المقاومة لتحقيق إنجاز يمكن للبنان الاستفادة منه لاستغلال ثرواته لحل ولو جزء من الأزمة الخانقة، هو إنجاز يحسب للمقاومة من جهة، ويشير للآلية الوحيدة الصحيحة والفعالة للتعامل مع الكيان الصهيوني في كل الملفات.
لكن الترسيم كملف، لم ولن يضع حدا للحروب المتعددة على المقاومة في كل الجبهات وبكل الأشكال. على العكس، فإن الهجمة تزداد، خصوصا بعد أن أثبتت المقاومة جدواها الكبير في ملف الترسيم. وفي هذه الأيام يتعرض حزب الله وحاضنته خصوصا، وأغلب لبنان عموما، لهجمة شرسة تستهدف النيل منه ومن دوره الذي يتجاوز لبنان الى المحيط العربي والإقليمي في مواجهة المشاريع الغربية- الصهيونية. فبالإضافة للمقاومة الفلسطينية، فإن المقاومة الإسلامية في لبنان هي نقطة التمرد الوحيدة تقريبا على المشاريع الإمبريالية والصهيونية في الوطن العربي، وهي أيضا بارقة أمل كبيرة نظرا لتاريخها وانجازاتها وجديتها. وهذا يرتب مسؤولية جدية وحقيقية وطنية وقومية وأخلاقية ليس على كل لبناني فقط، بل وعلى كل عربي كذلك للالتفاف حول المقاومة ومناصرتها بكل السبل الممكنة. ولهذا، فإننا في اشتباك ندعو إخوتنا العرب (أفرادا وأحزابا وهيئات ومثقفين، الخ) في كل مكان (وفي لبنان خصوصا) بالقيام بدورهم ومسؤولياتهم تجاه مناصرة وإسناد المقاومة بكل الطرق الممكنة - نتمنى، وندعو بصوت عال لأن يتم تجاوز الخلاف الراهن بين حزب الله والتيار الوطني الحر، فمصلحة لبنان ومصلحة التيار الوطني الحر أيضا تفترض أن لا تترك المقاومة وحيدة (مهما كانت قوتها). نحن نقدر عاليا طريقة التفكير السياسي لدى قيادة المقاومة التي تعمل على الحفاظ على التحالفات والتقاطعات الموجودة ما أمكنها ذلك، حفاظا على مصلحة لبنان. ندرك أن المقاومة تحتاج لأصدقاء أكثر دائما، من أجل تخفيف الاحتقان والنزاعات التي يعمل العدو على صناعتها وتأجيجها، خصوصا في سياق خاص كالسياق اللبناني. أننا ندرك، طبعا، أن بعض القوى المحلية متموضعة مبدئيا ومصلحيا ومنذ زمن طويل ضمن المشروع المعادي للمقاومة، وتمثل امتدادا محليا للمشروع الإمبريالي- الصهيوني وحلفاءهم العرب، لكننا نتوجه بالدعوة للقوى التي لا تزال متموضعة في داخل الخيمة الكبيرة للمشروع الوطني لتجاوز الاختلافات التي تبدو فعلا صغيرة من أجل المصلحة الكبرى، وملف الترسيم والدور الذي لعبته المقاومة في إسناد الدولة والوصول إلى النتيجة يجب أن تكون عبرة للجميع حول ما يمكن أن يكون.
إن حال وطننا العربي الكبير (وحال المقاومة في فلسطين) كان سيبدو أسوء بما لا يقاس لو لم تكن هناك مقاومة قوية وقادرة في لبنان. فاستهداف المقاومة الجاري بشراسة الآن هو في جوهره وشكله استهداف لكل عربي، لأنه حتما سيؤثر في التنظيم الإستراتيجي للإقليم وسيشكله تباعا وفق متطلبات مصالح العدو، وسيجعل من تنفيذ المشاريع الإمبريالية- الصهيونية أسهل بما لا يقاس، وأيضا سيؤثر مباشرة وبقوة في مستقبل القضية المركزية للعرب في فلسطين ومقاومة الشعب الفلسطيني للاستعمار الصهيوني.
-المغرب العربي الكبير
بعض التطورات الأخيرة اللافتة تشير الى محاولات تقوم بها السلطة في الجزائر من أجل التأسيس لتوجه تنموي مستقل (وإن في حدود بنية النظام القائم بالطبع). أحد المؤشرات الأخيرة كانت إعلانوزير العدل الجزائري عن "استعادة ٢٠ مليار دولار من أمول منهوبة، والرقم مرشح للارتفاع،واسترجاع ٢١٣ عقار صناعي ومصانع صناعة الزيوت وعقارات وفنادق وفيلل (سكنية) و٢٣ ألف ملكية، منها طائرات خاصة وسيارات فاخرة". المسألة الصناعية مهمة، خصوصا حين تكون برعاية الدولة كجزء من القطاع العام، والرئيس الجزائري كان قد تحدث علانية قبل عام بأن هناك صناعات محلية جرى تعليقها بقرارات بيروقراطية. وهذا بالطبع نتيجة هيمنة طبقة الكمبرادور خلال سنوات بو تفليقة. كما أعلنت الجزائر أنها بدأت حوارا مع تحالف بريكس من أجل الدخول فيها، وأعلنت أنها تعاقدت مع روسيا على شراء أس ٥٠٠. بالمقابل، فإن شركة رتاج القطرية تعاقدت على إقامة مجمع سياحي كبير في الجزائر، وهذا يثير كثيرا من الشك. من الواضح أن الجزائر تحاول تصدر المشهد الرسمي العربي، ولكن دون الجذرية الضرورية التي نركز عليها في اشتباك عربي.
أما في تونس، فيبدو أن الرئيس إسعيد أخذ يواجه تحديات أصعب من فترة ما قبل الانتخابات الأخيرة التي كان الاقبال عليها ضعيفاً، وهذا شجع اتحاد الشغل على المجاهرة بالمعارضة مما يشي بأنه صار أقرب إلى التحالف السابق، إضافة إلى أن الرئيس لا يستند الى حزب يدعمه، وتحالفاته مع من أيدوا خطوته ضد النهضة هو تحالف هش؛ وكان يجب البناء عليه والعمل على قيادة تونس بأفق مختلف جذريا عن الذي تقوم به الحكومة الراهنة، من حصر الحلول بالانفتاح على البنك الدولي وسياساته. لذا لن يكون غريبا أن يؤسس الواقع الراهن لعودة قوى الثورة المضادة وهجومها على السلطة من جديد.
أما في المغرب الأقصى فرغم ارتفاع مداخيل الفوسفاط التي سجلت أرقاما قياسية غير مسبوقة، تخطت 108 مليارات درهم خلال الأحد عشر شهرا الأولى من عام 2022، وتجاوزت تحويلات أفراد الجالية المغربية من مختلف بلدان المهجر لمائة مليار درهم، وهو تدفق يتعدى سقف السنوات الماضية، مما يوفر لخزينة الدولة احتياطا نقديا من العملة الصعبة. غير أن ميزانية الملكية (=الملك، مخصصات السيادة، حاشية وأعوان البلاط الملكي) في المغرب تلتهم جزءا هاما من الميزانية العامة للبلد، وهي ميزانية تم تمريرها في "البرلمان" دون أن تخضع لأدنى مناقشة! فالعائلة المالكة يتزايد ثراؤها وبذخها على حساب إفقار وتجويع غالبية الشعب الذي يعاني البؤس، لدرجة أنها تُصنف الأكثر كلفة بالنسبة لميزانية الدولة من بين أكثر الملكيات ثراء في العالم. وإذا أضفنا الميزانية المخصصة للجيش في قانون المالية لـ2023 التي تصل 119 مليارا و766 مليون درهم، والتي هي عاما بعد عام في ارتفاع، دون استحضار الكلفة المالية الضخمة لأجهزة القمع على تعددها وتضخمها؛ وتضخيم ميزانية الجيش أمر لافت لعلاقته بالتطبيع مع الكيان الصهيوني ولا سيما التطبيع العسكري الموجه ضد الجارة الجزائر. وهكذا، ندرك أن البلد عبارة عن أكبر سجن يرزح تحت نيره الملايين من أبناء شعبنا في المغرب.
يُداري النظام المغربي استفحال الأزمة بحملات من التضليل، كالتذرع بالجفاف حينا، وأزمة كورونا، ومتطلبات الحفاظ على التعبئة الشاملة لكسب رهان الصحراء التي يسميها القضية الوطنية- وهي نفس الذريعة لتظهير التطبيع مع الكيان الصهيوني. إن ارتفاع نسبة التضخم إلى مستوى قياسي لم يشهده المغرب باعتراف مؤسسات الحكم نفسه، منذ سنة 1995، سنة إعلان الحسن الثاني بأن المغرب قريب من السكتة القلبية، وتسارع الهجرة السرية إلى أوروبا وما تخلفه من مآسي...؛ يؤشر على مدى تأزم الواقع الاجتماعي بالمغرب، الذي تداريه الطبقة الحاكمة ونظامها السياسي بأفراح زائفة (كانتصارات المنتخب المغربي لكرة القدم)، ومحاولة صرف الأنظار والانتباه عنها باختلاق صراعات فردية هامشية لتشويه مركزية الصراع الطبقي، وفبركة قضايا جانبية وتضخيمها لخلق شرخ عمودي في قاعدة الهرم الاجتماعي بالمغرب وسط الطبقات الكادحة.
إن الدور الوظيفي للنظام الموكول له من أسياده الامبرياليين، جعله تحت حمايتهم وتغطية جرائمه، ويكفي هنا استحضار المجزرة التي ارتكبها بإبادته لعشرات الأفارقة بما فيهم سودانيين أزهق أرواحهم يوم 24 يونيو 2022، على بوابة مدينة مليلية المستعمرة، إثر قيام هؤلاء العزل بحقهم في التنقل والعبور إلى المدينة المغربية المحتلة. ولم يتعرض كلب حراسة الأوربيين المسعور لأي إدانة!
-السودان
تختلف أزمة شرق السودان حاليا بدرجة كبيرة عنها لدى انبلاج مؤتمر الشرق أواخر الخمسينيات من القرن العشرين في عدد من الملامح، فأولا على مستوى التعاطي المؤسس فقد ضم المؤتمر الأول جميع سكان الشرق وقد تعاطى مع الأقلية من منطلق جغرافي، ولذلك فقد كانت سمته السياسة بمعنى السعي لحل أزمة جميع سكانه ضمن معالجة أزمات أقاليم السودان جميعا، ومناطقه كافة كجزء من عملية البناء الجديد لدول حديثة الاستقلال عن الاستعمار التقليدي المباشر. ولذلك فلم تكن عناصر الأزمة ولا المعالجة تنطوي علي تهديدات اقتصادية وعسكرية وإنسانية من أي نوع، أما اليوم وقد تراكمت إخفاقات مشروع التحرر الوطني العربي بل وطرأت أمامه تحديات تجزئة جديدة، يضغط الاستعمار الجديد لتفجيرها بأكثر الصور قسوة من خلال الحصار والتدجين والاستيعاب وما تستتبعه تلك السياسات الإمبريالية من تفجير النزاعات على مصادر الثروة القائمة والمحتملة، ومن انسحاب الحكومات من سياسات تأمين الضرورات اليومية للمواطنين. ما يدفع البشر إلى التحاف انتماءاتهم فوق أو تحت القومية واستبدال الهويات بالمنحى ووفق ترتيبات يقودها في الغالب نشطاء وأحزاب وقوى تعمل تحت أجندات مشروطة بشروط مموليها.
تعاود مسألة الشرق الظهور تحت وطأة انسحاب الدولة الكامل منذ عام ٢٠٢٠ من جميع مسؤولياتها الخاصة بتأمين ضرورات الحياة اليومية، وما تبعه من اختفاء الوقود وانفلات الأسعار، بما فيها أسعار أدوية الأمراض الوبائية والحالات الحرجة. ومن ثم انكشاف الأقاليم عن غبن لا يمكن إنكاره، وإشراف الملايين على الوقوع في تخوم الجوع وسوء التغذية وتسرب الأطفال من التعليم... على أن الأزمة هذه المرة تعاود الاندلاع تحت لافتات قبلية وعنصرية وارتقاء السلاح سدة مقاعد التفاوض، فضلا عن الحصر العرقي الخطير الذي يعتبر الشرق موطنا لقبيلة واحدة (البجه) ذات سبعة بطون، مع التنكر والتحرش بإحدى البطون التي من المؤكد وقوعها تحت تهديد التصفية العرقية بحكم الدعاوي التي يتبناها مجلس النظارات والذي يصر على عدم سودانية البتي عامر، ووجوب طردهم إلى داخل حدود إرتريا، رغم انطواء المجلس على العبابدة المنتشرين أيضا بين مصر والسودان. وتبدو لحظات الاشتعال متواقتة مع محاولة قطر استعادة نفوذها داخل السودان ربما عبر شطب مسار الشرق الذي تبنته اتفاقية جوبا (تحت رعاية وترتيب دولة الإمارات)، التي تجاهلت عددا كبيرا من مكونات المجتمع، واقتصرت في التمثيل علي نشطاء وحضور عرفوا بالظهور على منابر مقبولة أو موصى بها للإمارات، لكن الأبعاد الإمبريالية للأزمة لا تقتصر على دور الخصار والتدجين في فرض السياسات المنتجة لحالات الهويات البديلة، بل يتعداها إلي المزاحمة على مناطق التعدين الغنية وربما محاولات طرد الروس من المنطقة والاستيلاء علي ثرواتها أو تجميدها كما اعتادوا أن يفعلوا في أفريقيا.
ولا يمكن غض البصر عن الحملات التي طالت شركة التعدين الروسية أو ملامح الوعد باتفاقية امتيازات بحرية للروس في البحر الأحمر، هذه الحملات التي قادها ناشطون متمولون أغلبيتهم من سقط اليسار من تلبرلو بفعل رواتب المنظمات الأوروبية. يعد الحاضر بالمستقبل والإشارات اليوم هي يوميات الغد، فهل يدخل الشرق الساعي للانفصال نزاعا مع ولايات الشمال ونهر النيل حول مناطق التعدين بحجج الامتداد القبلي وتداخل المراعي ومسار القوافل لاحقا؟ بتدبير المركز الامبريالي الساعي إلي احتكار حاضر البشرية ومستقبلها؟ وكيف يمكن للوطن العربي من ناحية ثانية ولمشروع التحرر، النقيض للتبعية والتخلف، تدارك تلك الأزمات أو على الأقل وقف استثمارها من قبل الاستعمار الجديد وقيادته الامبريالية. وهل من الممكن موضوعيا أو عروبيا أو أخلاقيا أو إنسانيا ترك السودان لتناقضاته وجروحه وحيدا في الغرفة، ممددا تحت مبضع تاجر الأعضاء الغربي وصبيته الخليجيين.
-اليمن
بعد سبع سنوات من دعم العدوان العسكري الهمجي السعودي على اليمن، وقيادته من الخلف، يبدو أن النتائج الميدانية الكارثية والفضائح الأخلاقية المترتبة على المجازر المستمرة ضد المدنيين العزل، دفعت الولايات المتحدة في نيسان/ أيار ٢٠٢٢ لتغيير نهجها في الحرب، والعمل على استخدام الهدنة التي توسطت فيها الأمم المتحدة بدفع أميركي كشكل جديد للحرب على اليمن. فبرغم أن الهدنة التي انتهكت آلاف المرات من قبل السعودية وحلفاءها أدت إلى انخفاض كبير في ضحايا العدوان في اليمن، إلا أن الهدنة، كما هي عليه الآن، لا تؤسس لإنهاء العدوان وانسحاب القوات المعتدية.
يتضح من خلفية الهدنة والدوافع السعودية والأميركية أن الاضطرار للهدنة لم يكن سببه فقط العجز عن تحقيق أي إنجازات، بل الهزائم المتواصلة للمحور الأميركي، برغم الثمن الكبير والتضحيات الكبيرة التي قدمها اليمن وأنصار الله للوصول الى هذه النقطة. فبعد سبع سنوات من العدوان، اصطدمت الولايات المتحدة (القائد الفعلي للعدوان) والسعودية بالحقائق الصلبة على الأرض التي صنعتها دماء أبطال اليمن. ففي ذلك الوقت، كان أنصار الله والجيش اليمني يسيطرون الآن على المناطق التي يتواجد فيها ٨٠٪ من السكان، فيما قدراتهم الصاروخية القادرة على الضرب في العمق السعودي والإماراتي تتطور بشكل لافت. وقبيل الهدنة مباشرة، أثارت معركة مأرب التي كان أنصار الله على وشك تحريرها في شباط- آذار ٢٠٢٢، الذعر لدى السعوديين والأميركيين على حد سواء، كونها خسارتها استراتيجية، كأحد المراكز السكانية الأساسية وكمصدر للبترول وتشابكها بخطوط وشبكات النفط، عدى عن أنها ستعيد ترتيب جغرافيا المعركة كون تحرير مأرب سيجعل من كل حدود الشمال تقريبا تحت السيطرة اليمنية مما سيعيد ترتيب خطوط الجبهات العسكرية. الرد السعودي الجوي والهمجي (من الواضح أن الولايات المتحدة هي التي كانت تقود المعركة) أدى لتأخير حسمها، لكنه أدى أيضا حسب التقارير الأميركية إلى تراجع خطير في مخزون السعودية من السلاح ودفعها للقبول بالهدنة.
اللافت أن التصريحات الأميركية تتضمن اعترافات بخسارة المعركة وانتصار أنصار الله حتى الآن (شهادات أمام لجان الكونغرس، تصريحات المبعوث الأميركي تيموثي لندركنغ، الخ)، وهو ما يفسر القبول بالهدنة. لكن التوجه الأميركي- السعودي الراهن يهدف إلى إبقاء الوضع على الأرض وعلى حالة الحصار على حالهما، وتحويل الاستنزاف عبر الهدنة إلى الشكل الجديد للحرب. لهذا، ولأن أنصار الله أعلنت رفضها لاستمرار الهدنة بلا انسحاب سعودي ورفع للحصار، وبلا أفق سياسي يمني حقيقي غير خاضع لتأثيرات دول العدوان، فسنكون أمام احتمال امتحان العودة لاستئناف العمل العسكري، خصوصا أن الأميركيين يقاتلون بدماء الجنود العرب من دول العدوان، وليس بجنودهم.
-الأردن
السمات العامة للمشهد الأردني تتشابه مع باقي مناطق الوطن العربي من حيث تسبب السياسات النيوليبرالية بإفقار منهجي للمواطنين، ارتفاع نسبة البطالة، ارتفاع الأسعار، الضرائب المرتفعة جدا نسبة لمستوى الدخل، ونهب الثروات عبر برامج الخصخصة. هكذا تم إنتاج الأزمة البنيوية الراهنة التي لا تمتلك منظومة الحكم أي حل لها سوى تطبيق المزيد من وصفات البنك الدولي الكارثية. لكن في خصوصية المشهد الأردني، يمكن التقدير بثقة أن الاحتجاجات الشعبية حتى اللحظة لم تتجاوز كسابقاتها منذ ١٩٨٩ الطابع المطلبي ولا ولم تشكل أي تهديد للمنظومة السياسية القائمة. وبرغم ذلك، فإن السلطات التي تتغول على الممتلكات العامة عبر برامج الخصخصة وبيع (في الحقيقة نهب) الموارد العامة (وصلت حد تأجير المرافق الأثرية كالبتراء وبعض القلاع التاريخية) تتهم المحتجين، من أجل ترهيبهم، بالاعتداء على الممتلكات العامة واتهامهم بالتخريب وأعمال الشغب (رغم أن حوادث العنف القليلة التي تم توظيفها لتشويه الاحتجاج جاءت من أطراف عملت برعاية أميركية وغربية وعربية في الحرب على سوريا ولم تكن غرفة الموك في الأردن ببعيدة). حتى الآن، لا يبدو أن لدى النظام أي قلق من تبعات الاحتجاجات على استقراره، ولا يبدو في الأفق أن هذا سيتغير قريبا، ولهذا يؤسس النظام برده وتشويهه للاحتجاجات المحقة للمزيد من السياسات التي أوصلت الأردن الى أزمته الحالية.
فالنظام، والطبقة الحاكمة المتحالفة مع الغرب تشكل أحد امتداداتها في المنطقة العربية، ليس فقط لا يمتلك حلولا جدية للأزمة (والحكومة قالت ذلك بوضوح، أنهم سيستمعون للمحتجين لكن ليس باستطاعتهم تغيير السياسات)، بل أن السياسات التي يتم تبنيها منذ منتصف الثمانينات هي جزء من تأسيس بنية تحتية نيوليبرالية إقليمية يكون الكيان الصهيوني في قلبها. لافتا جدا أن سائقي الشاحنات كانوا شرارة الاحتجاجات في الأردن، ولافت جدا أن أوضاعهم الصعبة جدا، كما هي حال أغلب أهلنا في الأردن، هي نتاج لسياسات اقتصادية حكومية محلية تتبع وصفات وشروط البنك الدولي، ومشاريع وسياسات إقليمية، كشروط السعودية ودول الخليج تقليص عمر الشاحنات لخمس سنوات، وهي فترة غير كافية لتسديد أقساطها، أو مشاريع السكك الحديدية لربط الكيان الصهيوني بدول المنطقة. هذا عدى عن أن بعض ما يحصل في الأردن على صلة وثيقة بالخراب الذي حل بالعراق أولا وسوريا ثانيا على يد الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاءهم العرب. هذا يعني أن حل الأزمة في الأردن، كما في أي بلد عربي ليست محلية بحتة، بل يجب ان تتكامل مع رؤية عربية للسياسة الخارجية، خصوصا فيما يخص ما يحصل في سورية وفلسطين. وما يحصل من تجويع في سورية نتيجة القانون الأميركي الجديد سيكون له صدى في الأردن إن بقي الصمت العربي على ما يجري في سورية على حاله. لأهلنا في الأردن تحديدا مصلحة مباشرة وحقيقية من التصدي لحرب التجويع التي تسن على سوريا، ونخشى بسبب التجربة، أن تبعات السكوت على ما يحدث في سوريا ستكون ملموسة في الأردن أكثر من أي مكان آخر.
-خاتمة:
التاريخ الاقتصادي لوطننا العربي في العقود الأخيرة لوحده كفيل بأن ينسف كل افتراضات الاقتصاد النيوليبرالي التي يفرضها الغرب والبنك الدولي علينا رأساً على عقب، وهذا التاريخ شاهد حي على أن تاريخ اجتثاث مقدرات التنمية في بلادنا وما لحق بأمتنا من كوارث هو ذاته تاريخ النيوليبرالية في بلادنا. فالانفتاح لم يعمل على زيادة الإنتاجية كما يَفْترِض ويَعِدْ أنبياء النيوليبرالية ورسل رأس المال. العكس بالضبط هو ما حصل في الوطن العربي، كما تؤكد دراسة "انخفاض الإنتاجية في الوطن العربي". مثلاً، "على مدى العقود الأربعة الماضية نما الطلب على اليد العاملة بمعدل أقل بكثير من نمو القوة العاملة، في حين أنه في الستينيات والسبعينيات (سنوات تدخل الدولة وإدارتها للاقتصاد) كان نمو الطلب على اليد العاملة متساو تقريباً مع معدل عرض العمل. علاوة على ذلك، منذ بداية الثمانينات (بداية اختراق النيوليبرالية لبلادنا)، لم يكن هناك أي تحولات كبرى في التكوين القطاعي أو تكوين الشركات في الوطن العربي، والذي كان من شأنه (لو حصل) أن يسمح بمرونة أكبر للطلب على العمل أو لحصول استبدال أكبر بين العمل/ رأس المال". لهذا، لم تكن شركات أكبر مع تكنولوجيا أفضل هي التي تقود النمو من خلال استبدال العمل بآلات أكثر كفاءة (كما تروج الدعاية)، بل "كانت ظروف السوق الحرة التي تقبل بها فقط المجتمعات المهزومة هي التي قادت لتسريح العمل".
في المقلب الآخر، وعلى العكس من ذلك تماماً، أثبت القطاع العام "غير الكفؤ" وفق الأدبيات النيوليبرالية، جدارته. كان فعالاً اجتماعياً لأنه استمر بالعمل بكفاءة "كوسادة" للرعاية الاجتماعية لمجمل السكان". بعد أربعة عقود من السياسات النيوليبرالية كانت النتائج كارثية: "٥٠٪ من سكان الوطن العربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم (حد الفقر) وينفقون أكثر من نصف دخلهم على المواد الغذائية الأساسية"، كما يشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام ٢٠٠٥. لكن عتبة الدولارين للدخل، والدولار للإنفاق على المواد الغذائية الأساسية، يجب أن تقرأ أيضاً في سياق ظروف الوطن العربي الخاصة، كون بلادنا هي أكثر بلاد الأرض تبعية (واستيراداً) حين يتعلق الأمر بالمواد الغذائية. فعتبة الدولارين والدولار في البلاد التابعة والمستوردة للمواد الغذائية ستضيف كثيراً لمعرفتنا وفهمنا لكيفية قراءة معدلات الفقر. ففي الهند، مثلاً، حيث المواد الغذائية تنتج محلياً، يمكن للدولار أن يشتري أكثر بكثير من لبنان أو مصر أو الأردن أو حيث يتم استيراد غالبية السلة الغذائية. ولهذا "فإنه حين يتم تحرير الأسعار من حركة الأسعار الدولية ويتم تحديدها وفقا لمعطيات الإنتاج في السوق الوطنية، فإن العائد يكون ذا قيمة أكبر نسبة للسعر". وبالتالي، فإنه حين يتم إنفاق نصف كل دولار على الأغذية المستوردة التي يتم تحديد أسعارها دولياً (كما في العراق ولبنان وليبيا مثلا) فإن مقياس "تعادل القوة الشرائية" (purchasing power parity) يصبح بلا معنى حين تشتري العملة الوطنية في الداخل ما يشتريه الدولار في الخارج".
في تقارير سابقة للإسكوا (تحديدا تقارير أعوام ٢٠٠٣، ٢٠٠٥ و٢٠٠٨)، أكد الخبراء أن الحالة الناتجة من الظروف الاقتصادية في المنطقة العربية غير قابلة للاستدامة (وغير محتملة) وقد تقود بمضاعفاتها لانفجار في الإقليم. لكن تأسيس الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مقدما لبنية تحتية هائلة من المنظمات غير الحكومية استطاعت ليس فقط أن تفرض نفسها ناطقة باسم الحراكات الشعبية الحقيقية، وتحرفها عن مساراتها الأصلية (استبدال المطالب الاقتصادية والاجتماعية بمطلب الديمقراطية الليبرالية والانتقال الديمقراطي الذي نظر له بعض الأدوات الغربية)، بل وأيضا هندسة ثورات ملونة (تحديدا في الأقطار العربية ذات القطاع العام الكبير وتحديدا المناهضة للهيمنة الأميركية والغربية في المنطقة والمقاومة للكيان الصهيوني) والدفع نحو خصخصة القطاعات العامة، تمهيدا لتفكيك هذه الدول ودفعها للتخلي عن دورها التاريخي. هذه الوصفة التي تشكل شروط وتعليمات البنك الدولي جزء منها هي وصفة خراب تهدف لإنتاج منطقة فاشلة باستمرار. هكذا فقط يمكن للولايات المتحدة ومنظومة الهيمنة الغربية ضمان بقاء الترتيب الإقليمي المنحاز لصالحها ولصالح استمرار الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
[2] كانت الخسائر البشرية لوحدها (دون التبعات الأخرى) للحروب الغربية على العراق أكثر من ثلاثة ملايين شهيد حتى عام ٢٠١١ حين بدأ الانسحاب العسكري الغربي: ١.٧مليون، من بينهم ٧٥٠ ألف طفل نتيجة العقوبات الهمجية، إضافة لـ ١.٤ مليون نتيجة للغزو عام ٢٠٠٣ و٢٠٠ ألف نتيجة لحرب ١٩٩١، حسب تقدير أستاذ القانون الدولي فرانسيس بويل في دراسته "الحماية القانونية للأطفال والنزاع المسلح: إبادة أطفال العراق"