في الثالث من آب 1990، أي بعد يوم واحد من دخول القوات العراقية الكويت، التقى بندر ابن سلطان بوزير الدفاع الأمريكي تشيني في مكتبه بحضور رئيس الأركان كولن باول. عرض باول على بندر الخطة "1002 – 90" التي تضمنت تفاصيل عن حجم وأعداد القوة العسكرية التي سوف تُستخدم لضرب العراق. الخطة كانت جاهزة ومركونة في أحد أدراج غرفة العمليات في البنتاغون وحان موعد تنفيذها على الأرض.
عن محمد حسنيين هيكل في كتابه "الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق"
في الخامس عشر من شهر أيلول 2001 أي بعد أربعة أيام فقط على هجمات الحادي عشر، اجتمع مجلس الحرب الامريكي لوضع استراتيجية لما سُميَّ ب "الحرب ضد الاٍرهاب"، بحضور رامسفيلد، ولفويتز، تشيني، باول، كوندوليزا رايس، تينيت وعدد اخر. ترأس الاجتماع الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش.
جورج بوش: ما العمل أيها السادة؟
رامسفيلد: نهاجم العراق!
جورج بوش: ولماذا العراق؟
رامسفيلد: لأن الخطة جاهزة سيدي!
آراء اقترحت إيران، وحجتهم ان الحرس الثوري يُشكل مصدر خطر.
آخرين اقترحوا سوريا لكونها تُساند حزب الله الذي يُشكل تهديدا لإسرائيل.
تينيت، باول وكوندوليزا رايس يدفعون باتجاه الحرب ضد أفغانستان، ولفويتز كان يدفع بإصرار نحو شن الحرب على العراق، حجته في ذلك إن التنفيذ سيكون أسهل مقارنة بالحرب على أفغانستان، ولأن التكاليف ستكون اقل، حيث سيدفع العراق تكاليف الحرب من نفطه، بالإضافة إلى تأمين الحصول على نفط رخيص في المستقبل، ولأن أمن اسرائيل سيكون في حال أفضل عند تدمير الجيش العراقي.
جورج بوش: إذن دعونا نطلق النار عليهم واحداً فواحداً.
"عن بوب وودوارد في كتابه "حرب بوش".
قرار الرئيس جورج بوش الابن "إذن دعونا نُطلق النار عليهم واحداً فواحداً" يختزل مجموع القرارات المُتخذة في ذلك الاجتماع لتنفيذ المخططات الأمريكية المُعدة سلفاً للمنطقة، ومنها مُخطط احتلال العراق الذي كشفه رامسفيلد حين قال "لأن الخطة جاهزة سيدي"
ثالوث العملية السياسية الأمريكية والاحتجاجات الشعبية.
عشرون عاماً وشعب العراق ما يزال ينزف ويعاني من آثار الاحتلال الأمريكي: بنية اقتصادية وخدمية مُدمرة تماماً، اقتصاد ريعي تابع، تراجع الإنتاج الزراعي، تعطيل الإنتاج الصناعي، ميزانية خدمية بدون خدمات، توقف المشاريع، بطالة، فقر، جوع، تصحر، تجفيف دجلة والفرات، إرهاب، فساد، انتشار المخدرات والجريمة المنظمة، تفشي الأمية، تخلف التعليم، تشوه الوعي العام، ظهور الأوبئة، رداءة الخدمات الصحية وانعدام الخدمات الأساسية كالماء الصالح للشرب والكهرباء...
عشرون عاماً والعراق ما يزال يخضع لاحتلال بغيض. تتجلى مظاهره بالهيمنة شبه المُطلقة المدعومة بسلسلة من القواعد العسكرية ونشاط مُتعدد الأغراض لأجهزة مخابراته ونفوذ إعلامه وتغلغل قواه الناعمة داخل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وتولي وكلاءه مسؤولية ادارة الحكم، إذ تمكنوا من ترسخ بنية اقتصاد ريعي تُلبي حاجة المُحتل وتُعيق تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي.
وفوق كل ذلك ما تزال الدولة الأمريكية تمتلك أداة مالية خطيرة تستخدمها للضغط السياسي على الحكومات العراقية للحد من احتمالية تمرد بعضها. فأمريكا تتحكم عملياً بعوائد بيع النفط العراقي، وهو المورد الرئيسي وشبه الوحيد للميزانية. فحسب قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1483 لسنة 2003 والذي استحصلت عليه الدولة الأمريكية بحكم الأمر الواقع، وبتعبير أكثر دقة، الذي فرضته على المجلس فرضاً، تتولى الإدارة الأمريكية مهمة الوصاية المالية على عائدات النفط العراقي باسم الأمم المتحدة. وحسب قرار الوصاية هذا لا يحصل العراق على عوائد بيع النفط من المُشتري مباشرة، بل تُودع هذه العوائد في حساب خاص في البنك الفيدرالي الأمريكي الذي بدوره يقوم باستقطاع غرامات فُرضت على العراق سابقاً، قبل ارسال كمية من هذه العوائد الى وزارة المالية العراقية. الكمية وسرعة الارسال تعتمدان على أجواء العلاقة بالحكومات العراقية المتعاقبة. وعلى الرغم من انتهاء موجبات اصدار القرار الدولي وبالتالي الغاءه رسمياً، بعد أن سدد العراق كل الغرامات المفروضة عليه، إلا أن كلا الطرفين ما زالا متمسكان بعقد الوصاية.
المتابع الموضوعي للتطورات في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي سيجد دون عناء يُذكر أن هذا الاحتلال قد خلق الظروف التي سهلت على بلدان الجوار الإقليمي مد نفوذها السياسي، وبالتالي أتيحت لها إمكانية التدخل غير المباشر. فليس خافياً على المُتابع تدخلات إيران وتركيا والسعودية وقطر والامارات وحتى الأردن والكويت. بل وصل الأمر إلى حد دخول مليشيات غير عراقية إلى مناطق خارج سيطرة الدولة وفرض وجودها، على سبيل المثال مليشيات حزب العمال الكردستاني PKK.
للنفوذ الإيراني حصة كبيرة، لا سيما في المناطق التي ينتشر فيها نشاط الأحزاب الطائفية الشيعية، وكذلك في مناطق شرق الإقليم. وسواء اتفقنا أم لا فإن النفوذ الإيراني على قوى الإسلام الشيعي الحاكمة قد تجاوز حدود علاقات التضامن الطبيعية وأخذ شكل التدخل السافر في العديد من الوجوه. ولا ننسى واقع أن إيران تُدافع عن نفسها في الساحة العراقية من هجمات ضمن مؤامرة تستهدفها تنطلق من هذه الساحة، وهذا الدفاع هو الذي يقف وراء سفور التدخل الإيراني، الذي بدوره سهل على الإعلام المُعادي تحميله مسؤولية الوضع الكارثي الذي يعاني منه العراقيون.
وعلى الرغم من كل التضحيات والمساعدات التي قدمتها إيران للعراق عند تحرير الأراضي التي احتلتها داعش، إلا أن صورة سلبية عن إيران قد ترسخت في وعي المواطن العراقي. يعود السبب في هذا إلى دعمها الرسمي لقوى وأحزاب ومليشيات غارقة في الفساد والنهب، في الوقت الذي لم تقم فيه هذه الأحزاب بتنفيذ حتى مشروع واحد مُفيد، سواء خدمي أم انتاجي، طيلة وجودها في السلطة، وقد ساعد على ترسيخ هذه الصورة بلا شك الاعلام المتفوق الأمريكي والاوروبي والخليجي.
شيد المحتل الأمريكي النظام السياسي الحالي على أسس طائفية وإثنية قائمة على المُحاصصة بين المُشاركين. وقد صممها بطريقة عطلت إمكانية إصلاحها من داخلها، حتى أًصبح مُجرد التفكير بإصلاحها، محض خيال. فلا توجد آلية دستورية تسمح بأي إصلاح أو تعديل، كما أن مصالح القوى السياسية المُشاركة فيها تتحقق فقط بالتوافق وتتضرر من أي إصلاح قد يُلغي المُحاصصة. كما جعل المُحتل هيكل العملية السياسية مُحصنا من إمكانية اسقاطه بتحرك عسكري أو ما شابهه، حيث ألغى مركزية السلطة وجعلها مئات السلطات موزعة على مقرات الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية وميلشياتها وعلى الوحدات العسكرية الموزعة الولاءات، وكذلك على المؤسسات الاجتماعية لما قبل الدولة (مؤسسة العشيرة) التي أُعيد إحياءها.
حرص المُحتل الأمريكي وأصر على بناء هيكل العملية السياسية الطائفية والقومية من ثلاثة أضلاع، قائمة على قاعدة ترفعها ثلاثة أعمدة:
• دستور الاحتلال.
• المرجعية الدينية.
• والتحكم الأمريكي المباشر بالعائدات المالية من تصدير النفط.
الأضلاع الثلاث تُمثل مجموع القوى والأحزاب والمنظمات التي تعاونت معه أو ارتضت بوجوده وتتحرك ضمن ثلاث مناطق جغرافية حسب الانتماءات الطائفية أو القومية. وهي المناطق المُعدة للانفصال مستقبلا:
1. منطقة إقليم كردستان تحت سيطرة الأحزاب القومية الكردية الموالية للاحتلال الأمريكي.
2. المنطقة الغربية تحت سيطرة الأحزاب الطائفية السنية وزعماء العشائر. مؤيدة لبقاء الاحتلال الأمريكي.
3. منطقة الوسط والجنوب تخضع لسيطرة الأحزاب الطائفية الشيعية الموزعة الولاءات ما بين إيران وأمريكا. وفي هذه المنطقة بالذات تتحرك ما يُسمى بالقوى المدنية الموالية إلى الاحتلال الأمريكي، وهي عبارة عن دكاكين سياسية تُطلق على نفسها أحزاب، إلى جانب نشاط ما يُسمى بمنظمات المجتمع المدني المُمولة.
في المقابل لا توجد خارج العملية السياسية مُعارضة حزبية مُنظمة وقوية ذات طابع جماهيري ولها وزن يُحسب له وتغطي جميع أنحاء العراق. فالحزب الشيوعي العراق الذي كانت الجماهير الشعبية تُعول عليه لماضيه النضالي، انتقل عملياً إلى جانب الاحتلال الأمريكي وساهم بفعالية في تشويه الوعي الجمعي للعراقيين. وسهل احتفاظه باسمه القديم، رغم تخليه الكامل عن الفكر، خداع الجماهير في عملية تشويه الوعي المتواصلة. ولم يكن مستغرباً لدى بعض كوادره او متابعيه انخراط قياداته في العملية السياسية وبالتالي تحول الحزب إلى دكان من دكاكين الليبرالية.
هذا لا ينفي، بطبيعة الحال ظهور قوى رافضة للعملية السياسية تتشكل غالبيتها من مجموعات يسارية. غير أن هذه القوى مشتتة وما زالت عاجزة لأسباب موضوعية لا تنفي القصور الذاتي، عن توحيد صفوفها والقيام بمهمة قيادة استياء شعبي يتصاعد. حيث تُقدر نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة 18% فقط، وهذا مؤشر على حجم الاستياء الشعبي الكبير بسبب الأوضاع المعيشية المُزرية التي وصلت إليها حياة المواطن العراقي بعد عشرين عام من الاحتلال.
وعند تحليلنا للأوضاع السياسية يجدر بنا الأخذ بنظر الاعتبار واقع أن النُخب الثقافية والإعلامية والأحزاب الداعمة للعملية السياسية الموزعة على الأضلاع الثلاثة نجحت في شطب المهمات الوطنية الموحدة للعراقيين في وعي أعداد كبيرة منهم واستبدلتها بمهمات طائفية واثنية ومناطقية تخص هذه الطائفة أو تلك المجموعة، وبالتالي تقدمت الهويات الفرعية على حساب تراجع الهوية الوطنية المركزية.
ظاهرة الفساد المُتفشية عمودياً وأفقياً، كما لا يخفى على المُتابع الموضوعي، لا يقتصر تفشيها على بغداد وجنوبها، بل هي شائعة في جميع انحاء العراق، في الإقليم والمحافظات الغربية. وهي ظاهرة تمتد جذورها في زمن الحصار الذي تعرض له العراق في التسعينات، لكنها اتسعت وتعمقت بفعل سياسة إفساد متعمدة انتهجتها سلطات الاحتلال الأمريكي لأجل شراء وضمان ولاء أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونُخب ثقافية وصحفية وعسكرية وتجارية. وبدورها بدورها، احتاجت الأحزاب السياسية المُكلفة بإدارة النظام السياسي إلى قاعدة اجتماعية تستند إليها، فسعت إلى شراء المناضلين السابقين وذمم نُخب معروضة أساساً للبيع في أسواق البورصات السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
ومع أن عمليات الفساد والنهب والاختلاس تُمارسها جميع القوى السياسية، بغض النظر عن الانتماء القومي أو الطائفي في كل المناطق التي تُمثلها الأضلاع الثلاث، ومع أن ظواهر سوء الخدمات وانهيار التعليم وبنية الاقتصاد الريعي وكل مظاهر الوضع الكارثي، نجدها في جميع انحاء العراق، ويتحمل مسؤوليتها الجميع بلا استثناء، إلا أن الاحتجاجات الشعبية التي بدأت تخرج منذ العام 2011 كادت تقتصر على مناطق الوسط والجنوب. يعود السبب إلى طبيعة المرحلة السياسية بعد توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي والظروف التي أوجدتها.
من المعروف إن سلطات الاحتلال الأمريكي المدنية والعسكرية، في بداية تشكيل النظام السياسي، سمحت لنفوذ إيراني أرادته محدوداً. وقتها كان الجيش الأمريكي يتعرض في المناطق الغربية الى سلسلة عمليات مقاومة أنهكته. ولهذا السبب أراد تحييد إيران والقوى السياسية الشيعية العراقية، التي لم تعترض اساساً على الاحتلال، بهدف تجنب حدوث عمليات مقاومة مسلحة في مناطق الوسط والجنوب. فأقدم الاحتلال على ضم قوى سياسية طائفية شيعية موالية إلى إيران في العملية السياسية. من المؤكد أن الاحتلال استطاع كسب ولاء عدد كبير من قياداتها، إلا أنه فشل عملياً في تحجيم النفوذ الإيراني الآخذ بالاتساع في مناطق الوسط والجنوب، وجزئيا في مناطق شرق الإقليم.
صحيح أن الصراعات الحالية بين القوى المشاركة في عملية الاحتلال السياسية، سواء في منطقة الوسط والجنوب أو في منطقة الإقليم وكذلك المنطقة الغربية، هي صراعات بين اللصوص على حصص المسروقات، إلا أنها تجري ضمن محاولات أمريكا المتكررة لاستعادة الهيمنة المُطلقة التي فقدت جزء منها بسبب اتساع النفوذ الإيراني. وضمن هذه المحاولات نفسها يجري استغلال الاستياء الشعبي المُتصاعد وتحويل الاحتجاجات إلى واحدة من أدوات الضغط السياسي ضمن العملية السياسية القائمة. استغلال قوى أمريكا الناعمة للاحتجاجات الشعبية لا ينفي بطبيعة الحال وجود استياء شعبي كبير وبالتالي لا ينفي طبيعة بداياتها العفوية. إلا أن هذه العفوية هي بالذات هي التي تقف وراء وضع عربة الاحتجاجات الشعبية على السكة الأمريكية.
الفيدرالية في الدستور العراقي منشار تقطيع العراق
في معرض حديثي عن ثالوث العملية السياسية أشرت إلى أن الدستور العراقي هو أحد الأعمدة التي يستند عليها هيكل العملية السياسية التي شيدها الاحتلال الأمريكي للبلاد. أهمية الدستور بالنسبة للعملية السياسية يتأتى من كونه الوثيقة الوحيدة القادرة على تجميع الفرقاء وتشتيتهم في آن واحد. طريقة صياغته جعلت منه الرافعة التي تدعم الهيكل وتمنع سقوطه. انهيار الهيكل سيعني خسارة جميع فرقاء العملية السياسية من القوى والأحزاب والدكاكين المُستفيدة من استمرار وجودها.
في العام 2005 وتحت حماية قوات الاحتلال الأمريكي وبإشراف مباشر من قبل خبراء المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، اجتمع عدد من حاملي الجنسية العراقية والأجنبية وكتبوا ما كان نوح فريدمان وبيتر غالبيرث يُمْليان عليهم، فخرجوا لنا بطبخة مُعدة سلفاً سميت "الدستور العراقي"، وهو نسخة مُنقحة ومُطورة عن قانون إدارة الدولة لسنة 2003 الذي سنته سلطات الاحتلال الأمريكي بإدارة بول بريمر.
نوح فيلدمان أمريكي صهيوني، عمل في العراق كمستشار لبريمر في فترة كتابة الدستور، وهو الذي صاغ قانون الإدارة المدنية السالف الذكر. أشرف بنفسه على كتابة الدستور الافغاني والعراقي، وكانت له يد في كتابة دستور الاخوان في مصر والمُحرض الأول على إزالة فقرة تجريم التطبيع مع إسرائيل في الدستور التونسي. يُلقب ب "صاحب النظرية السحرية لتقسيم الشعوب"، ومعروف عنه تشجيعه للإسلام السياسي.
بيتر غالبيرث هو سفير أمريكي سابق في إندونيسيا وفي كرواتيا. معروف عنه دوره في تقسيم يوغسلافيا وإندونيسيا. لم يُخف يوماً صهيونيته. عمل رسمياً كمستشار للقيادات الكردية في فترة كتابة الدستور العراقي، وحصل مقابل ذلك على ثروة كبيرة. معروف عنه مواقفه التي تدعو علناً إلى تقسيم العراق. ولعل عنوان كتابه "نهاية العراق" يكشف عن طبيعة المهمة التي اضطلع بها. من أشد المتحمسين لتنفيذ أفكار الرئيس الأمريكي الحالي بايدن، أيام كان الرئيس عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي، وهي الأفكار التي دعا فيها الى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع بحكم ذاتي واسع الصلاحيات وإنشاء حكومة مركزية في بغداد لها سلطات أقل. يعود له الدور الرئيسي في تثبيت الفيدرالية في الدستور العراقي وفي صياغة المواد الدستورية المتعلقة بعلاقة الإقليم مع السلطات الاتحادية وكذلك المواد الدستورية المتعلقة بالثروة النفطية والغازية.
من المفيد الإشارة إلى أن الأحزاب القومية الكردية تخلت عن شعار "الحكم الذاتي الحقيقي" ورفعت شعار "الفيدرالية" في العام 1992 بعد أن أصبحت منطقة نفوذها تحت حماية الجيش الأمريكي وحلفاءه، وبعد أن نجح غالبيرث المتواجد في الإقليم منذ العام 1991 بجر القيادات الكردية إلى تنفيذ مخطط مُعد بعناية لتفتيت المنطقة. اما بالنسبة لقيادات الحزب الشيوعي العراقي فقد تخلت عن شعارها "من أجل حكم ذاتي حقيقي" واستبدلته بالفيدرالية بالتزامن مع بداية تبنيها أفكار الليبرالية الجديدة، وأعلنته رسميا في العام 1993.
الفيدرالية لدى صانعيها هي شكل من اشكال الحكم يقوم على أساس اتحاد طوعي بين اقليمين أو أكثر في دولة واحدة. بحيث يتمتع كل إقليم باستقلال ذاتي، يتضمن قيام حكومة محلية لإدارة شؤون مواطني الإقليم، وسلطة تشريعية وسلطة قضائية أيضاً. تتفق الأقاليم على التنازل عن حق إدارة الشؤون العسكرية والسياسة الخارجية والتمثيل الدولي إلى سلطات الاتحاد المركزية التي تملك حق نقض قرارات أحد الأقاليم، بينما لا يملك أي إقليم مثل هذا الحق. الترجمة الحرفية للفيدرالية هي الاتحادية.
الاتحادات الفيدرالية قامت أساسا بهدف توحيد شعوب كانت تعيش في أقاليم متجاورة. فهي أداة أوجدتها الرأسمالية الصاعدة بهدف توحيد الأسواق. كما ارتبط مفهوم الفيدرالية بظهور مفاهيم الوطن والوطنية. وقد لعب احتكار الاستعمار من قبل دول وحجبه عن آخرين حافزا للشعوب الأوروبية المتجاورة والمتصارعة في نفس الوقت، أن تُوقف صراعاتها وتُوحد أسواقها في دول جديدة على أمل الحصول على حصة من غنائم الاستعمار. وهنا يحضرني رأي للدكتور على الوردي مفاده إن العشائر البدوية لا تتوقف عن غزو بعضها البعض إلا من أجل غزوة أكبر.
ففي الفترة التي قررت فيها سلطات الاحتلال الأمريكية انشاء عملية سياسية لإدارة العراق بهدف تنفيذ مهام الاحتلال بأيدي عراقية، تداول المحتلون رأيين بخصوص نوع الفيدرالية المُقرر فرضها على العراق عبر الدستور المُقرر إصداره. الرأي الأول أن يكون للأقاليم صلاحيات أوسع من المركز، والتي تبناها فيما بعد الديمقراطي بايدن يوم كان عضواً في مجلس الشيوخ، وهو رأي دعمه الخبراء الاسرائيليون اللذين استعانت بهم قوات الاحتلال.
والرأي الثاني أن يكون للمركز هامش صلاحيات صورية تبدو وكأنها أوسع من صلاحيات الأقاليم، تبنته سلطات الاحتلال المدنية والعسكرية التي كانت بحاجة ماسة إلى تحييد سكان الوسط والجنوب وتجنب اغضابهم بمشاريع تقسيم صريحة، في الوقت الذي كانت فيه قواتهم تُواجه مقاومة شرسة في المناطق الغربية ألحقت بهم خسائر بشرية أكثر من مجموع خسائرهم طيلة عشرين عاماً من احتلالهم أفغانستان.
إلا أن الطرفين، على ما يظهر، توصلا إلى قاسم مُشترك يُحقق مصالح أمريكا على المدى الاستراتيجي ويُلبي في نفس الوقت مصالح الكيان الصهيوني. حيث سعى المُشرع الأمريكي الى خلق تناقض في تفسير الصلاحيات. وتولى غالبيرث تنفيذ هذه المهمة عن طريق تلغيم الدستور، وخصوصاً في المواد المتعلقة بتشكيل الأقاليم وتعديل الدستور وتحديد الصلاحيات.
وصل استهتار المشرفين على كتابة الدستور إلى حد اهانة واذلال عراقيي الجنسية من المُساهمين في كتابته. حيث وقع الأذلاء من ممثلي الأحزاب والهيئات، بما فيها المرجعيات الدينية، على 139 مادة دستورية، أُمليت عليهم كتابتها. بينما بلغت أعداد مواد الدستور في الإصدار الرسمي 144 مادة. أي خمسة مواد جديدة أضافها غالبيرث ومنها اللغم الشهير بالمادة 140 دون أن يجرأ أحد من الموقعين على الاحتجاج، ولو بالإيحاء.
لن أتناول موضوع الغاء الهوية العربية للعراق في الدستور رغم أهميته، باعتبارها واحدة من أهداف الاحتلال. وسوف أتناول الألغام المتعلقة بتنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وبين الإقليم في إطار نظام حكم فيدرالي مفروض. أسميتها ألغام بسبب مفعولها التدميري حالياً وفي المستقبل.
صنفتها في دراسة سابقة إلى عدة أنواع، أختار منها ثلاث:
النوع الأول هي الألغام التي تُحرض وتشجع على تشكيل أقاليم جديدة. فتجعل من تشكيلها عملية سهلة جداً وبسيطة إلى أبعد الحدود. فعلى سبيل المثال تنص المادة 118: على أن مجلس النواب يمكنه سن قانون " يحدد الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم بالأغلبية البسيطة للأعضاء الحاضرين!"
أما المادة 119: فتنص "يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين اقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، إما بطلب من ثلث الاعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، أو بطلب من عُشر الناخبين في كل محافظة"!
النوع الثاني هي الألغام التي جعلت من تعديل الدستور عملية مستحيلة. حاجة الأمم إلى تعديل دساتيرها تنطلق من كون الأجيال اللاحقة غير مُلزمة بقوانين وأنظمة دستورية لا تُناسب عصرها. ففي الوقت الذي جعلت كل دساتير العالم من إمكانية التعديل عملية سهلة وممكنة ولا تضع عراقيل وصعوبات عندما تحتاج الامة إلى التعديل، تعمد المُشرع الأمريكي الصهيوني وضع مادتين دستوريتين تجعلان من فكرة تعديل الدستور غير ممكنة على الاطلاق.
المادة 126: جعلت أية تعديلات مستقبلية مشروطة بموافقة من السلطة التشريعية في الإقليم وبموافقة أغلبية سكان الإقليم. وفي المادة 142: جعل المُشرع التعديل مشروط بموافقة أغلبية المصوتين في ثلاث محافظات، والمقصودة هي المحافظات الكردية. وهذا يعني في التطبيق العملي استحالة الحصول على موافقة الإقليم الذي لن ولن يُفرط في المكاسب التي حصل عليها عند التوقيع على الدستور.
أما النوع الثالث والخطير هي تلك الألغام التي وضعت علناً من أجل جعل الخلافات حالة دائمة لا نهاية لها. فقد تعمد المُشرع وضع مواد دستوريه تنفي أحداهم الأخرى. فصياغات المواد تُعطي الصلاحية مرة للمركز ومرة أخرى يسحبها منه! هذه الصياغات هي التي شوهت العلاقة بين المركز والإقليم. وأعتقد أن التناقضات في صياغة المواد هي المسؤولة عن الحالة التي أصبح فيها إقليم الأقلية الكُردية دولة مُستقلة عملياً داخل لا دولة. وفوق ذلك هي التي تُقرر على السلطات الاتحادية، وليس العكس.
ألغام التناقضات وضعت بطريقة واضحة لكنها وقحة، وكأن المُشرع أراد الاستخفاف بعقول العراقيين. فالمادة 13: "يُعدُ هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق، ويكون مُلزماً في انحائه كافة وبدون استثناء. ولا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الاقاليم أو اي نص قــانوني آخــر يتعارض معه".
هذا يعني أن الدستور:
- مُلزم في انحائه كافة وبدون استثناء.
- لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور.
- يُعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الاقاليم أو اي نص قــانوني آخــر يتعارض معه.
بينما المادة 115: تُناقض تماماً كل ما ورد في المادة السابقة. " الصلاحيات المشتركة بين الحكومة الاتحادية والاقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما"
هذا يعني أن الدستور:
- غير مُلزم في جميع أنحاء العراق لأنه مستثنى في الأقاليم.
- سمح بسن قوانين تتعارض مع الدستور الاتحادي.
- لم تَعد باطلة النصوص التي ترد في دساتير الاقاليم ولا أي نص قــانوني آخــر يتعارض معه.
دعونا ندخل لنُعاين عن كثب لُغم آخر في هذا الحقل.
المادة 120: "يقوم الإقليم بوضع دستور له، يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على ان لا يتعارض مع هذا الدستور"
بينما المادة 121: "يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم، في حالة وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الإقليم".
أكتفي بهذا القدر من عينات الألغام الفيدرالية في الدستور العراقي التي تكشف نوايا الاحتلال من فرض الفيدرالية كمنشار لتقطيع أوصال العراق إلى ثلاثة مناطق في المرحلة الأولى وتفتيته في مراحل لاحقة.
دعوة إلى تحرير العراق من قيود الفيدرالية
يعتمد الاحتلال الأمريكي، بشكل رئيسي، على زعماء الإقليم في تنفيذ سياسته الرامية إلى زعزعة الاستقرار لضمان استمرار العملية السياسية التي أسسها بهدف تنفيذ مهمات الاحتلال بعد منح العراق استقلاله الصوري. وقد تحول الإقليم عملياً إلى دولة أقلية تتحكم بسياسات العراق وقراراته المصيرية ونجحت إلى حد كبير في عزله عن محيطه العربي. وصار زعماءه يُمارسون دور المُحرض على تفتيت العراق بالتشجيع على انشاء أقاليم جديدة. كما أصبحت المناطق التي يسطر عليها الإقليم منفذ للتغلغل الإسرائيلي، الاقتصادي والثقافي والمخابراتي إلى سائر مناطق العراق. وتحولت أربيل إلى ملاذ للمجرمين والمخربين وعاصمة لإفساد المناضلين السابقين، وجعل من أراضيه منطلق لتهديد دول الجوار.
أما اقتصادياً فقد تحول، بالمعنى الحرفي للمفهوم، إلى زائدة طفيلية غير مُنتجة وتعيش على حساب قوت ومعيشة بقية المواطنين العراقيين.
لا نختلف على كون الاحتلال الأمريكي للبلاد يمثل القضية الرئيسية للشعب العراقي، ومسألة انهائه تكون لها الأولوية في تفكير القوى الوطنية العراقية على ضعفها وتشتتها. تشخيص الأولي لا يمنع من توجيه ضربات قوية وموجعة إلى الثانوي، تُضعفه، لا سيما إذا كان هذا الثانوي هو الذراع الأيمن الذي يعتمد عليه الاحتلال بشكل كبير.
جميعنا نتذكر، نحن العراقيون، كرد قبل العرب، كيف وقفت غالبية شعبية ونُخب ثقافية وسياسية وطنية عراقية من مناطق الوسط والجنوب والمنطقة الغربية على مدى عشرات السنين إلى جانب نضال الشعب الكردي من أجل نيل حقوقه القومية العادلة التي جسدها شعار الحكم الذاتي. وتحمل الآلاف منا تبعات هذا الموقف، كما حمل العديد منا السلاح دفاعاً عن قضيته العادلة.
تنطق الوقائع الحالية بأن الشعب الكردي في أراضي الإقليم، وقواه السياسية القومية والعشائرية قد أنجزوا عملياً إقامة دولة مستقلة عن العراق. إذا جاز لنا وصفه بالإنجاز، فلم يتحقق هذا الإنجاز، كثمرة لنضال قومي، بل نتيجة تدخل عسكري غربي ودعم إسرائيلي مُعلن. ولهذا فإن هذا الاستقلال العملي مؤجل إعلانه رسمياً بقرار أمريكي. سبب التأجيل يعود إلى قناعة الاحتلال الأمريكي بأن بقاء الإقليم ضمن العراق أكثر فائدة للاحتلال من استقلاله عن العراق. فما يزال الإقليم يمثل الجهة الأساسية، التي تقوم بالدور الوظيفي المناط بها لإضعاف العراق بمنع استقراره عن طريق ادامة أزماته واستنزاف طاقاته وثرواته.
دعونا الان نبحث عن طبيعة العلاقة الحالية بين الإقليم المستقل عملياً وسائر انحاء العراق. ولا اعتقد ان أياً منا سيجد صعوبة في توصيف تلك العلاقة. رسمياً هي علاقة زواج فيدرالي، أما عملياً فقد تجاوزت هذه العلاقة حتى الصيغة الكونفدرالية، بل أخذت شكل علاقة دولة داخل دولة، لكنها دولة أقلية تفرض ارادتها على دولة الأغلبية. هذه العلاقة الشاذة مُقررة من قبل دولة الاحتلال الأمريكي، ولا يمكن انتظار تعديلها. فلا مصلحة لمؤسس وراعي هذه العلاقة القيام بتعديلها، ولا مصلحة كذلك لسلطة الأقلية ونُخبها قبول أي تعديل، ما دامت تدر هذه العلاقة مكاسب شخصية مالية لم يحلموا بها طيلة حياتهم.
ولنكن واقعيين ونعترف بحقيقة نراها جميعاً، لأنها ماثلة أمام أعيننا، أن أغلبية الشعب الكردي، وعلى الرغم من المصاعب الاقتصادية التي يعانيها، واستياءه من فساد الأحزاب والسلطات، إلا أنه لا يعترف ولا يريد أن يعترف بوجود أي قاسم نضالي مُشترك مع بقية الشعب العراقي. فالمهمة الرئيسية في الوعي الجمعي للمواطنين في الإقليم هي تحقيق حلم قومي بإقامة كردستان الكبرى. ولهذا فإن المواطن هناك مُهيئ نفسياً للالتفاف حول نُخبه الفاسدة، حين يتعلق الأمر بالعواطف القومية.
ثلاثة عقود من الانفصال العملي عن العراق، سادت خلاله دعاية سياسية موجهة ضد كل ما هو عراقي وعربي، حيث أُلغيت في هذه الفترة الدراسة باللغة العربية وكذلك ألغيّ تدريس اللغة العربية، كانت كافية لخلق حاجز نفسي وثقافي مع بقية العراق. وقد ولد وترعرع أكثر من جيل لا يعرف اللغة العربية.
منح التدخل الأمريكي في شؤون العراق بعد توريط النظام في مستنقع الكويت، الفرصة للقوميين الكرد ولزعماء العشائر من تحقيق الانفصال الإداري والثقافي والسياسي عن السلطة المركزية في بغداد، باستثناء تمويل الإدارة الانفصالية التي انْتُزِعَت من واردات "برنامج النفط مقابل الغذاء". وكانت نسبتها آنذاك 12% حسب نسبة سكان المناطق الكردية إلى مجموع سكان العراق وفق خبراء الأمم المتحدة. ومنذ ذلك الوقت تحولت المحافظات ذات الأغلبية الكردية إلى قاعدة دائمة للقوات الامريكية، ومنفذ مفتوح على مصراعيه للتغلغل الإسرائيلي المخابراتي والثقافي والتجاري. وكذلك تحولت إلى ملجئ للجواسيس والخونة من كل الأصناف والألوان.
ففي هذه الفترة أخذ الشارع الكردي يعكس تفكير نخبه بفك الارتباط نهائياً بنضال الشعب العراقي وبقضاياه للدرجة التي صار فيها المواطن العراقي الكردي يستنكف من المواطنة العراقية، رغم استمرار حمله لوثائقها..
كان من نتائج الاحتلال الأمريكي المباشر للعراق، تعميق حالة الانفصال الإداري والسياسي الثقافي والنفسي للإقليم عن سائر المحافظات العراقية وتعميق شعور سكان الإقليم بالغربة عن بقية سكان العراق. لقد نجح العدو في تأسيس وعي بين الاكراد مُعاد لكل ما هو عربي، ومن الصعب تغييره في الأوضاع السياسية الراهنة. والحقيقة إن انفصال الإقليم أصبح أمرأ مفروغاً منه، ويعتمد الإعلان عنه على ضوء أخضر من واشنطن التي لا ترى أن الوقت الحالي مناسب لإعلان هذا الاستقلال، فالدور الوظيفي الذي تقوم به دولة الإقليم ببقائها ضمن العراق أهم من الأدوار الوظيفية التي من الممكن أن تقوم بها وهي مستقلة عن العراق. وينطلق الموقف الأمريكي من ضعف الثقة بإمكانية المشاركين الآخرين في العملية السياسية من أحزاب وجماعات وأفراد في بغداد من العمل الخلاق لتنفيذ سياسة تخدم المصالح الامريكية بشكل مُبدع من وجهة نظر أمريكية، بسبب التخوف من النفوذ الإيراني، لذا رأت الإدارة الامريكية إن الحل الأمثل في الوقت الحالي وضع عملاءها من المشاركين في العملية السياسية تحت التهديد والابتزاز لضمان لجوئهم إلى السفارة الامريكية، طلباً للمساعدة عند أي خلاف مع الإقليم. كما إن الإدارة الامريكية تريد من بقاء دولة الإقليم ضمن العراق استخدام المليشيات الكردية لقمع أي انتفاضة شعبية تهدد العملية السياسية في بغداد كما حدث عندما تم استخدام لواء الحرس الجمهوري في قمع انتفاضة تشرين قبل اختطافها.
صار الإقليم كيان طفيلي يعتاش على ما تُنتجه مناطق العراق الاخرى عبر النهب والابتزاز. ارتفعت الحصة المخصصة للإقليم في الميزانية من 12% الى 17% بقرار من العميل الدولي أياد علاوي في الفترة التي عينه فيها الحاكم الأمريكي بريمر بمنصب رئيس الوزراء. وهي حصة أكبر من نسبتهم الى عدد سكان العراق. كما أن إدارة الإقليم، كما لا يخفى على أي متابع، تستولى على عائدات النفط المُنتجة في المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات الكردية، ولا تُسلمها إلى السلطات المركزية. كما تمتنع أيضاً عن تسليم عائدات الجمارك والضرائب المتحصلة من الأعمال والمشاريع ورسوم المطارات. وبهذا تُقدر حصة الإقليم الفعلية من ميزانية العراق أكثر من 30% بينما تبلغ نسبة سكانه 12% من العدد الكلي لسكان العراق. مع ملاحظة إن الإقليم لا يدفع فوائد القروض التي وقعتها الحكومة المركزية مع البنك الدولي، ولا أقساط السداد. مع أن هذه القروض استُخدمت لسداد ديون متراكمة على سلطات الإقليم لشركات النفط العاملة في المنطقة.
الوفرة المالية لدى سلطات الإقليم مكنتها من شراء ذمم المناضلين وأحزاب وقوى سياسية تعمل في مناطق العراق الأخرى.
الحديث عن تحول كردستان إلى ملجأ آمن للإرهابين الفارين وقاعدة لوجستية للاختراق الإسرائيلي للعراق يطول، لكنه يؤكد على حقيقة دامغة من أن بقاء الإقليم ضمن العراق بصيغة العلاقة الحالية (دولة أقلية تُدير دولة الأغلبية) يشكل خطر أمني واستراتيجي، يصعب السيطرة عليه مع الوقت. فسلوك القيادة الكردية الابتزازي وخنوع سياسي المنطقة الخضراء لهذه الابتزازات، جعلت مستقبل العراق السياسي والاقتصادي والقانوني تحت رحمة الزعماء الأكراد.
الزواج بين الإقليم وسائر العراق ليس زواج كاثوليكي، يُحرم فسخ عقده. وحدة العراق مُقدسة بلا شك، إلا أن تحول الإقليم الى جسم سرطاني طفيلي ضرره أكثر من نفعه، فتصبح سلامة العراق، والحال هكذا، أكثر قُدسية. التفكير السياسي السليم لا يؤخذ بعين الاعتبار العواطف الرومانسية التي تتغنى بوحدة الوطن مهما كان شكل هذه الوحدة. فمن غير المعقول السماح باستنزاف وافقار واهانة 88% من المواطنين العراقيين لإرضاء 12% لا يعترفون أصلاً بعراقيتهم.
آن الأوان لفك الارتباط مع الإقليم. آن الأوان لتحرير العراق من احتلال الإقليم، كخطوة على طريق تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي.
كنت قد طرحت مثل هذه الفكرة قبل بضعة سنوات، وتوقعت رفض الفكرة، لا سيما من قبل الرفاق والأصدقاء الماركسيين وكذلك من الجماعات التي تحشر نفسها بينهم. وحدث ما توقعته.
حق تقرير المصير في الماركسية هو موقف براغماتي في التطبيق العملي، ولكنه يرتدي ثوب مبدئي. بمعنى إن الموقف الماركسي يشترط دائماً تحقيق مصلحة جهة معينة. دعونا نسميها الكادحين، كي أتجنب الدخول في نقاشات فرعية. مصلحة الكادحين تشمل على حد سواء كادحي الأقلية التي ترغب بالانفصال وكادحي الأغلبية. ولهذا فان حق تقرير المصير في الماركسية لا يعني آلياً الانفصال.
قيام دولة كردية مُنفصلة كلياً عن العراق وتابعة إلى أمريكا وإسرائيل لن تخدم على المدى البعيد مصلحة كادحي الأقلية الكردية البالغة نسبتها 12%. ولكنها ستخدم بكل تأكيد مصلحة كادحي الاغلبية البالغة 88%. ففي هذه الحالة فان مصلحة الأغلبية هي التي تُعتمد في التفسير الماركسي.
من المؤكد إن الاحتلال الأمريكي للعراق هو القضية الرئيسية، ولكن بقاء علاقة الإقليم في وضعه الحالي ضمن العراق يُطيل من عمر الاحتلال ويقوي قبضته، لأن الإقليم هو أحد أخطر أدوات الاحتلال لإضعاف العراق وادامة مشاكله.
وأنا ادعو إلى فصل الإقليم عن الوطن أعرف جيداً أنه من الممكن أن يتحول الى كماشة إسرائيلية تُطبق على خاصرة العراق وسوريا. إلا أن وجود عدوك خارج بيتك، أقل خطراً من وجوده داخل البيت.
الدعوة الى فك الارتباط مع الإقليم لا يقود بالضرورة إلى الانفصال المباشر، ربما يقود إلى تصحيح العلاقة المشوهة عبر الضغط الاقتصادي المتواصل على سلطات الإقليم وتذكير نُخبه بحجمهم الحقيقي. فك الارتباط سيحرمهم عملياً من موارد لا غنى لهم عنها في ظروف إقليمية ودولية لا تسمح لهم بإمكانية إعلان الاستقلال.