العربية والعروبة وأشياء أخرى

ياسر شعبان

فكرة العروبة قضية لا علاقة لها بالانتماء لإقليم نجد "الواقع في وسط الجزيرة العربية"  ثقافيًا أو عرقيًا فالموضوع أكبر من جلافة ساكني تلك الهضبة الصحراوية القاحلة .

لأن القضية ومكمن الخطر في التركيز المستمر على عدم قدرة العرب "بالمعنى الحديث للمصطلح " على الإنتاج في أي مجال حداثي وأننا لسنا عربًا مع إضافة  الكليشيه الساداتيّ "العرب جرب" ما يفضي إلى الفرقة والتشظي وتعميق حالة الدونية الثقافية والعرقية المرتبطة بتلك الهوية الجامعة التي أهداها لنا التاريخ عبر جدل المنطقة الذاتي.

وطالما أننا لسنا عربًا  سيحق لأصحاب الثقافات الفرعية  " التي لم يتم هضمها بالكامل لتعرقل مشاريع الحداثة والوحدة العربية داخل الأقطار القزمية" أن تُعيد إحياء هوياتها الفرعية وتقيم عليها دعاوي سياسية بالانفصال والاستقلال. فيصير جبرا علينا أن نعترف بوجود منطق ما! في دعاوي بعض النوبيين ودعاوي بعض السيناوية التي تتلمس طريقها على استحياء ودعاوي بعض أقباط المهجر وبعض أهل مطروح المتوقعة . ويصبح وقتها ومع التداعي الحر والمسيطَر عليه من أقبية مخابرات منظومة النهب، أنه من حق كل عائلة ممتدة أن تستقل وتنتزع جزء من الفضاء الجغرافي للوطن المُفتت لتصنع به كيانها السياسي بحجة امتلاكها لثقافة مغايرة قزميّة ومزاج مختلف أو شفرة وراثية متفردة  ...إنه أمر غاية في الخطورة  وإن كان الاستعمار يصب في طريق دعم مثل هذا التفتت الثقافي والهوياتي واللغوي فإن وجود لغة جامعة مثل العربية تغطي حيز جغرافي شاسع تصبح عامل غاية في الأهمية لمقاومة تلك السياسات  فاللغة العربية هي نحن هي بقائنا واستمرارنا وهي سلاحنا لمقاومة الهيمنة الاستعمارية.

والحجة الأخرى هي أنه ليس هناك حضارة عربية من الأساس بدعوى أن العلماء المنتمين لها كانوا مرفوضين من الثقافة السائدة ومن ثم تم تكفيرهم وقتل الكثير منهم بمعنى أن إنجازهم لم يتحول إلى ثقافة سائدة   كذلك يُقال أن أغلبهم بل كلهم لا ينتمون إلى العرب عرقيًا وذلك تأكيد لنفس خرافة أن العرب هم بدو نجد وتهامة والحجاز حصرًا  .

وهناك سؤال يمكن أن يُقرب المعاني ويوضحها هل هناك حضارة يمكن أن نسميها الحضارة الإغريقية ؟؟

رغم أن أغلب فلاسفتها تم التنكيل بهم ورفضهم تكفيرا وقتلا.

كذلك حضارة عصر النهضة الأوروبية أغلب  فلاسفتها كانوا رافضين لسياق عصرهم وثائرين عليه وكانوا في نفس الوقت مرفوضين ومنبوذين وتم التنكيل بهم تكفيرا وقتلا وتعذيبا .هل ذلك ينفي وجود إنجاز حضاري للإغريق أو الأوروبيين؟  ورغم ذلك فالحضارة الإغريقية ماتت في بلادها ولم يتم استيعابها إلا في الحضارة العربية التي استوعبت مفاهيمها وهضمتها ثم طرحت إنتاجها الخاص

 وبالتالي فان رفض المفكرين العرب لسياق المجتمع العربي ورفض المجتمع لهم، هو نفس رفض مفكرين عصر النهضة لسياق المجتمع الأوروبي ورفض المجتمع الأوروبي القروسطي لهم  لا ينفي  الإنجاز الحضاري العربي و ما جعل هناك فرق حقيقي  بين الحضارة العربية والأوروبية  في عصر النهضة هو ظهور علاقات الإنتاج الرأسمالية في أوروبا ما أدى  إلى تحول النشاط العلمي والفلسفي إلى مواضيع  ذات عائد اقتصادي حقيقي وجزء من أدوات الصراع السياسي التناحري على السلطة بين الطبقة البرجوازية الصاعدة والطبقة الإقطاعية المسيطرة .

أما عن انتزاع صفة العروبة عن علماء الحضارة العربية في القرون الوسطى،  فلابد أن نسأل عن معنى العرب كمصطلح تاريخي  فالتوقف بمفهوم العرب عند  بدو نجد والحجاز وتهامة يفضي إلى مناقشة التاريخ  بشكل انفعالي، به الكثير من نزق المراهقين، فإسقاط  معايير مرحلة تاريخية على أخرى تسم معالجتنا التاريخية بالذاتية التي ليس لها معنى ولا تقدم شيء.

فالعروبة والعربية أمر يتجاوز حتى الفتوح العربية  فاللغة العربية هي نتاج ضخم ومشترك لكل حضارات المنطقة وليس  بدوها.. فبدوها كانوا فقط عامل محفز لنشرها على نطاق أوسع  عبر كيان سياسي ضخم وإن كان ما يدفعنا  للترفع عن الانتماء العربي ما أُلصق بالفتوح العربية من همجية أو شراسة أو دموية وسواء كان هذا مجرد ادعاءات أو حقائق تاريخية، فإن حركة التاريخ وتكون الدول أو تفتتها لا تحمل أي قدر ما ولو ضئيل من الرحمة فهذه هي طبيعة الأمور  بالإضافة إلى أن الامتزاج العرقي في المنطقة كان يتم على قدم وساق منذ أقدم العصور وما كان النتاج الثقافي المشترك إلا أثر من آثار الاندماج العرقي وسببا للتوسّع فيه وتعميقه حتى من قبل الفتوح العربية التي سرعت تلك العملية وأوصلتها لمداها الأقصى   .               

أما الحضارة المصرية على سبيل المثال  فقد كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة  إبّان الغزو الفارسي والصراع معه لاحقا، وسقطت جثة خائرة القوى مع غزو  الإسكندر ثم مع الغزو الروماني ودخلت في طور التحلل مع اعتناق المصريين للمسيحية  وبالتالي لم يكن ليوتوبيا الحضارة المصرية القديمة وجود حتى يأتي  العرب بعد ألف عام فيدمروا معالمها .... و حاليا لا وجود لما يمكن أن نطلق عليه "مصريين صرف"  لأن من بداية التاريخ  لم يتواجد مثل هذا الشيء فحتى في مصر القديمة  كان التسلل والغزو من نطاق الصحاري المحيط  "ذات نمط معاش الترحال" لا ينقطع وكان أعنفها الغزو الهكسوسي والتسلل الذي سبقه والذي ميز عهد الاضمحلال الثاني ، وأسرى الحروب المصاحبة لغزوات وفتوحات أباطرة الدولة الحديثة والتسلل الليبي الذي اجتاح غرب الدلتا  وشمالها لدرجة أنهم كونوا الأسرة الثانية والعشريين بزعامة شيشنق الأول، ثم أعقب ذلك التغلغل  الإغريقي في النسيج المصري مع دخول الإسكندر. كل هذا قد تم على قاعدة أساسية أن مصر الكلاسيكية مصر ما قبل التاريخ أرض  الوادي والدلتا كانت أرض مهجورة في العصر المطير وأن من عمّرها كانوا مهاجرين من كل أنحاء هضبة الصحراء الكبرى الشاسعة ومهاجرين من الهضبة الشرقية  وصحراء سيناء والجزيرة العربية والجنوب الزنجي أو المتزنج ... ما يعني أن مصر منذ البداية وهي بوتقة ضخمة لانصهار الأجناس حتى بعد الفتوح العربية أصبحت مصر مصب لأعراق المنطقة والعالم ولا يوجد مواطن مصري إلا وبه نسبة ما من كل الأعراق التي دخل واستوطنت مصر.  وللعلم وعلى سبيل المثال فرشيد مثلا كانت محل استقرار الكثير من أهل البوسنة والهرسك " البوشناق" الذين هاجروا مع فتح العثمانيين مصر واستقروا واختلطوا بأهلها  وكثير من أهل شمال الدلتا ذو جلود شقراء وعيون ملونة ، ذلك بفعل حركات الاستيطان طويلة الأمد كتلك والقادمة من جنوب أوروبا .

فلا محل  لدعواي النقاء العرقي "الصرف" المفتعل خاصة في مصر ولا محل  لدعاوي الثقافة التي أزهقت روحها الفتوح العربية  كل ذلك غير صحيح وافتراء وتدليس على التاريخ.

وكما أن العربية ثقافة وليست عرق وليس لها حيز جغرافي محدد فهي إن سادت في حيز ما انضم تلقائيا إلى البدن الأصلي  ووسع  من نطاقه.

فابن خلدون على سبيل المثال الذي يُأمزغ أصله البعض حاليا  وينزع عنه صفة العروبة كان يفكر  بالمنطق العربي لأزمات المجتمع العربي الذي يتجاوز مضمونه حدود مجتمع البداوة والترحل  كان يفكر بمنطق أهل مصر وتونس والمغرب العربي وسوريا الكبرى والعراق واليمن كان يفكر بمنطق الحضارة العربية المستقرة والمنتجة وكان يُعيد التفكير في حركة التاريخ والإنسان في هذا النطاق الضخم كان يٌنظر لنشأة الدول وانهيارها تبعا للمعطيات التاريخية لهذا النطاق الجغرافي.

فالثقافة واللغة ظواهر حية ودائما ما يوجد ثقافات تقوم بابتلاع  ثقافات وتهضمها وتُكوّن ثقافة أكبر وأثرى وهذا ما فعلته العربية  بثقافات المنطقة الفرعية والمشتتة والمهزومة . فإن  كان الله قد بلبل لسان الخلق حول برج بابل  وشتتهم فإن العربية قد أعادت توحيد هذا الشتات اللغوي .

وما قاله ابن خلدون  عن العرب  لم يكن يقصد به إلا الأعراب الرحل كان يتحدث عن مزاج البدو وليس عن الشعوب المستقرة و هو كان واقع في تناقض بين الاستقرار والترحل. 

والحضارة العربية هي حضارة الإقليم العربي الكبير في العصور الوسطى أهل الجزيرة والعراق وسوريا ومصر والمغرب و السودان  والأندلس وفارس  وأواسط  آسيا المسلمة وكل من  استوعبته العربية كلسان وثقافة صبغت نمط الحياة أيا كان مكانه  وأيا كان عصره ...فالفرس  على سبيل المثال ليس لهم أي معنى حضاري خارج نطاق صيرورة الحضارة العربية و كان من الممكن أن يصبحوا  جزء من العرب لو حدثت هجرة ضخمة مثل هجرة  بني سليم وبني هلال إلى المغرب والتي عربته  ولكن ذلك لم يحدث.

هنا يتم مناقشة  التاريخ من منطق جدلي وليس من قوالب مثاليه ثابته و القصد أن العروبة ليست  قضية مطلقة ولا ظاهرة أبدية أزلية بل هي خاضعة لآليات الانتخاب التاريخي  خاضعة لإمكانية النمو واحتمال الموت خاضعة للصدف التاريخية وإشراق التغيرات الكيفية المفاجئة من تراكم الكم عبر القرون بمعنى أنه مع الزمن لو أن  الأفارقة استوعبتهم  العربية وتبنوها  لأصبحت إفريقيا  جزء من الإقليم العربي الكبير مثل  ما حدث في الصومال وموريتانيا وجزر القمر الذين التحقوا بالإقليم العربي الكبير وكذلك مثل  ما يحدث في تشاد التي قد تنضم مع الزمن له لما للعربية من دور مهم في الوساطة اللغوية بين القبائل المختلفة.

وبالتالي فالعربية أوسع بكثير من كل القوالب الجافة المغلقة  التي يتم مناقشة القضية من خلالها  فالحضارة العربية واللغة العربية تقدم تجربة متفردة في تاريخ الحضارة الإنسانية فهي نتاج مشترك لأقدم الأمم والحضارات على  الأرض ومنجزها الحضاري في القرون الوسطى كان دال على طبيعة تطورها وخط سيرها القادم في التاريخ لأنها استوعبت في نطاقها شعوب وأعراق ونطاقات جغرافية متنوعة وكان المزاج العام لكل هذه الشعوب يتصف بالانسجام والتناغم فلا مكان لثقافة مصرية أو ليبية أو عراقية أو مغربية أو .... أو .... إلخ. وإن وجدت  اختلافات فما هي إلا تفريعات ثقافية وتنويعات على نفس اللحن الثقافي الكبير فببساطة  كان من الممكن وتضاعف ذلك الآن أن يتزوج المصري من عراقية ويتعايش معها بنفس العقلية والتقاليد والعادات ولا يشعر معها بأي اختلال أو اختلاف أو غربة  لكنه يشعر مع الصينية أو الأوروبية أو الهندية على النقيض.   كذلك عندما كتب الغزالي في الشرق ورد عليه بن رشد في الغرب كان الأمر يتم كأنه يتم في إطار دولة واحدة رغم أن الوحدة السياسية لم تكن متحققة.

أما كون دول أوروبا لغات مختلفة لكن قيمهم واحدة و أسلوب تفكيرهم واحد حتى نمط حياتهم واحد فلم تعد اللغة عائق لوحدتهم لأن المشترك بينهم  أصبح أكثر عمقا  من حاجز اللغة فليس هذا مثال يُقاس عليه ، ذلك لأن درجة التطور الحضاري عندهم أعلى وبالتالي هناك ظواهر تم استيعابها وهضمها في مجتمعات المدن ومجتمعات الزراعة الحديثة  الأوروبية  لكنها مازالت ترتع عندنا في بلهنية التبعية والتخلف كالثقافات الفرعية التي تستخدم كعتبة لتدخلات منظومة  النهب في الإقليم لتفتيته أكثر وأكثر  فنحن شعوب تم تدمير مشاريع تحديثها وتم اختراقها بكل ما يمكن من أدوات لكي يتم تسكين  اللحظة الحضارية الآنية  ومن ثم تفكيك كل ما تم  إنجازه في مرحلة التحرر لإعادتنا لمراحل تاريخه كنا قد تجاوزناها نسبيا ..

وعلى القياس فالمشترك بيني وبين السوري ساكن المدن أقرب إليّ من المصري ساكن الريف والريفي المصري أقرب إلى الريفي السوري من أهل المدن في مصر والبدوي المصري يفهم البديو في كل مكان من عالمنا العربي أكثر من أهل المدن في إقليمه . ولذلك فالتحجج بمسألة أن أهل الجزيرة بدو وأهل مصر زُرّاع لتأسيس استحالة الوحدة أمر غير علمي ذلك لأن الجزيرة العربية مليئة بالمدن الساحلية والواحات الزراعية التي تقترب في مزاجها من فلاحي مصر وسوريا والعراق ولو اطلعنا على رواية مدن الملح لعبد الرحمن منيف نشهد وصف دقيق لما شهدته منطقة  غرب الخليج في السعودية من تحولات اقتصادية واجتماعية  كادت أن تفضي لثورة تقدمية لو تصاعد المد القومي وانتصر  وكان مزاج أهل المدن النفطية الساحلية تلك أقرب إلى مزاج أهل المدن في كل الإقليم العربي الكبير أكثر من قُرب مزاج الريف المصري مثلا للمدن المصرية في نفس الفترة.  أما ما أوقف ذلك فهو تدخلات منظومة النهب لوأد مشروع الحداثة والوحدة العربي.

كذلك لم نكن عربا منذ الأزل ومن يروج لذلك ما هو إلا جاهل بالخطوط العريضة والتفاصيل الدقيقة لتاريخ الشرق الأدنى القديم وهذا الخطاب هو محض خطاب سياسي مبتذل لا قيمة له ولا يصمد للنقد والتفنيد... فالشعوب التي سكنت الشرق القديم والتي كونت حضاراته العظيمة كانت إلى ذلك الوقت شعوب لثقافات ولغات منفصلة إلى حد كبير ولم يربطها أي شعور بالانتماء الموحد أو الثقافة الواحدة أو اللغة المشتركة التي لا تحتاج إلى وسطاء بشريين من المترجمين لتحقيق التفاهم .

لكن عروبة المنطقة جاءت  بالتدريج وبالجدل الداخلي للمنطقة و بانهيار مراكز وقيام أخرى تقود الإقليم في مواجهة  صلف الإمبراطورية الرومانية  فيخطئ من يظن أن التعريب قد بدأ مع الفتوحات العربية في القرن السابع  الميلادي بل إن تلك الحركة  لم تكن إلا النقلة النوعية لتراكم كمي  استمر قرون  ففي اللحظة التي انهارت فيها مقاومة مصر للرومان  واستسلم العراق  للسيطرة الرومانية ثم الفارسية  كانت سوريا الداخلية تقاوم وتنتصر في بعض الأحيان على الإمبراطورية الرومانية وكانت مملكة تدمر التي امتدت حتى ابتلعت الدلتا المصرية لفترة من الزمن، خير مثال على استمرار المقاومة في تلك المنطقة تحديدا في نفس الوقت التي كانت قد ماتت فيه في كل من مصر والعراق. وقد ميز هذا المثلث الداخلي الواقع بين الفرات والبحر المتوسط  انفتاحه على صحاري وواحات وهضاب الجزيرة العربية التي شكلت له خزان لا ينضب من الموجات المتلاحقة من الهجرات البشرية  التي تميزت بحيوتها العالية بعكس شعوب الوديان الزراعية التي أنهكتها تطاول أزمنة الاستعباد والقهر ولنا في ظاهر العمر الذي نازع الخلافة العثمانية  في حكم فلسطين والذي تحالف مع على بك الكبير في مصر  مثال من التاريخ الحديث على تتابع هجرات القبائل من الجزيرة العربية  مُشكلة قيادات حيوية جديدة  فقد هاجرت قبيلة بني زيد إلى الشام في القرن السابع عشر ..

وبالتالي كان من الطبيعي أن تتولى سوريا الداخلية  قيادة العمليات في مواجهة الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية  وأن تسود ثقافتها ولغتها ومنطقها  بعد أن ماتت كل قدرة على المقاومة  في المنطقة بعد سبعة قرون من الاستنزاف الروماني ثم البيزنطي ..بالإضافة إلى أن قبائل النبط خلال القرن  الذي سبق الفتح العربي قد انتشرت بشكل كبير على حواف مصر الشرقية.

فعروبة المنطقة لم تكن أزلية  كما يروج البعض ولم تُنجز بتحطيم روح الحضارات القديمة كما يروج البعض الآخر ولكنها كانت عملية جدلية طبيعية وسعت من ثقافة المركز الذي تولى عمليات المقاومة للإمبراطورية الرومانية بعد أن مات الجميع  فهي تلقفت المنطقة  وهي تحتضر تقريبا ومنحت شعوب الإقليم كله صفحة جديدة من الحياة  لتكتب  فصلا  رائعا وخصبا من فصول الحضارة الإنسانية.

ذلك ما يفتح الأفق  مستقبلا لمزيد من تعريب كثير من الشعوب ذلك في حال نشوء مركز عربي قوي مستقل عن منظومة النهب العالمية  حيث يصبح التعريب سلاح من أجل مقاومة الهيمنة في يد من يحمله .. خاصة من شعوب قارتنا السمراء ..

وإلصاق الانتماء العروبي على المصريين القدماء على سبيل الثمال بغرض مد ظاهرة العروبة تاريخيا عبر الزمن السحيق هو محاولة  غير علمية وغير موضوعية وهو من قبيل إسقاط أزمات ومتطلبات الواقع علي الماضي ... فالعروبة هي ظاهرة تتشكل ولم تأخذ صبغتها وملامحها النهائية بعد  ..وإن كان هناك تشابك حضاري وتشابه بين أمم الشرق القديم فهذا أمر طبيعي بحكم التأثير المتبادل والهجرات الممتدة المتداخلة  من صحاري إيران حتي الأطلسي في الأزمنة القديمة ...و  القصد أن العروبة ظاهرة تاريخية و ليست ظاهرة أزلية ...فالعروبة كفكرة سياسية اجتماعية حديثة  و كمنطلق لتأسيس قومية كبري ووطن واحد ظاهرة تاريخية حديثة تطلب ظهورها توافر عدد من الشروط الموضوعية التي لم تكن متوفرة في الأزمنة القديمة ..... و التداخل بين الشعوب القديمة في الشرق كان أمرا طبيعيا. فقبل نشوء الدول الكبرى بجيوشها وقلاعها وحدودها وجماركها وتحصيناتها، كان تيار الهجرة لقبائل عصر الجمع والصيد والرعي والزراعة بالعصا  لا يتوقف ولم يتوقف بعد ذلك وإن حُصر بما تسمح به حالة الدول من ضعف وقوة  وتداخل الأفكار الدينية وتشابهها أمر طبيعي لوحدة الشروط الموضوعية للحياة وتشابهها وإن عبرت كل حضارة عن تميزها النسبي .  هذا فضلا عن أن الهجرات والتأثيرات لم تقتصر علي ما يحدث داخل هذه المنطقة الممتدة من صحاري إيران حتي الأطلسي ولكن تيارات الهجرة منها و عبرها وإليها امتدت في كل الاتجاهات من أعماق إفريقيا ومن أصقاع أوراسيا العظمي .وإن كانت الأبحاث اللغوية قد أثبتت الصلات بين اللغات العراقية السورية و الجزيرية  وبين المصرية فقد أثبتت أيضا الصلات بين اللغات العروبية كما أطلق عليها علي فهمي خشيم وبين الشجرة اللغوية الكبرى الهندوارية كما حاول لويس عوض في بحثه في فقه اللغة العربية ... وإن جذرنا الأمور فإنه لا قوميات من الأساس فكل شعوب الأرض المتجاورة متشابهة عرقيا وثقافيا ومؤهلين لإنبات قومية جديدة .. وما القومية إلا تكتيك سياسي بورجوازي،  لذلك كل ما أود طرحه هو أن العروبة ليست قديمة ..عروبتنا  بمفاهيمها ومنطلقاتها وغايتها ليست قديمة وإنما هي طرح فوقوي لتكتيك افضل لمواجهة الاستعمار  القومية تكتيك حديث وتبدي لتطورات جذرية في بني المجتمعات "العربية".... ولو وإن أردنا جدلا أن نجد قومية "سورية عراقية وإيرانية "كبرى واحدة  لوجدنا لها جذورفي اللغة والدين والميثولوجيا والعرق والتاريخ والجغرافيا ولو رغبنا في إثبات ذلك علي وادي النيل الأسود لفعلنا ولو أردنا قومية عامه للبحر المتوسط لفعلنا ... إن الأزمة تبدأ عندما تذوب الحواجز بين الماضي والحاضر .. فنقوم بإعادة إنتاج الماضي بشكل متحيز لدعم فكرة معينة من الممكن دعمها بشكل أكثر ثباتا لو استدعينا التاريخ بشكل أكثر موضوعيه. ..... ووجهة نظر تلك لا تحمل تنصل من العروبة والقومية ولكن تحاول وضع التوصيف في موضعه الزمني المحدد .. فتوصيف المصريين الحاليين عربا لا خلاف عليه في إطار الدفع في سبيل تشكل قومية جديدة وليس إحياء لقومية ترهلت وضعفت وماتت كما يفعل "الكميتيين" وهم أنصار القومية المصرية القديمة  ... أما توصيف المصريين القدماء بالعرب فهذا توصيف غير علمي بالمرة ولا أعرف له حيثيات تصمد للنقد والتفنيد ؟!!. ولا أبغي غير توصيف الظاهرة في حالتها المتحركة  ... وهنا يٌطرح سؤال، لو كان الفرس قد تعربوا وكان الأتراك قد تعربوا وكان الأفارقة تعربوا وكان عبد الرحمن الغافقي انتصر في معركة بواتيه وكانت الأندلس مازلت تنطق بالعربية هي وصقلية وجنوب إيطاليا وتعربت أوروبا بفعل الفتح هل كان كل هؤلاء سنلصق بهم العروبة كتوصيف أزلي أم ماذا ؟..... لا أدري معني لعلمية أو موضوعية أزلية العروبة ... إن العروبة ظاهرة تاريخية تتشكل وليست أزلية كروح الله.

فما عروبة المغرب " العربي حاليا " إلا نتاج هجرة بني هلال وبني سليم كما أن المغرب العربي لم يكن له عمق استراتيجي يتعارض مع محتوى الثقافة العربية الاسلامية يقوم بالضغط لاسترجاعها كما كانت أوروبا المسيحية تضغط لاسترجاع إسبانيا وصقليه وجنوب أوروبا أما الفرس فلو لا الثورة العباسية ضد بني أمية التي أعلت من شأن الشعوبية الفارسية وأعطت لها مساحة للتمدد وغياب أي هجرات كثيفه إحلالية من قبائل جزيرية لتعربت إيران ولصارت هي المشرق العربي الأقصى .... فليس من المعقول أن تكون شعوب المغرب عربية وهي تبعد أكثر من5000 كيلو عن المركز الكلاسيكي للعرب في حين أن إيران الملاصقة لنفس المركز ليست عربية  ... أما مصر فقد ظلت تتحدث القبطية ولفترة طويلة جدا حتي بعد الغزو العربي  وقد غمرت مصر هجرات عربية كبيرة قبل الحكم العربي وبعده كما أن روح مصر قد تم انهاكها تماما من قبل كما وصفنا سابقا، عكس فارس. فكان تغيّر اللغة والدين للمرة الثانية أمر هين .... هل  السودان الأفريقي  عربي ؟ فلو لم يتدخل الاستعمار لفرض خط عرض22كحد فاصل لانتشار العروبة والإسلام ولو كانت إمبراطوريه مصر الأفريقية استمرت ولم يجهضها الاحتلال البريطاني  لقامت بدورها في تعريب وادي النيل كله بما فيه اثيوبيا.  تلك المهمه التاريخية الضرورة لو كانت أٌنجزت، هل كنا سنقول علي قبائل الدنكا والفور النوباويين وغيرها عرب منذ القدم . ؟؟ الصوماليون المنتمون للوطن العربي حاليا هل هم عرب ...؟ليسوا عربا بل هم قومية منفصلة مشتتة بين أثيوبيا وكينيا والصومال  ... لكنهم يتعربون كما يتعرب التشاديون .

  كل ما سبق يؤكد لا علمية أزلية العروبة ... وإنها ظاهرة ديناميكية جدلية غير ساكنه وغير مثالية .

 

ولذلك فالعروبة  ليست قومية عرقية ولكنها أفضل استراتيجية مرحلية  لمواجهة منظومة النهب  ذلك الطرح يحررها  من استاتيكيتها المثالية فلا أزلية فيها ولا أبدية وإنما هي ظاهرة تاريخية تنمو بالجدل معرضة للتطور في كل الاتجاهات ومعرضة للانقراض كاحتمال قائم وهي كأي ظاهرة بنت الضرورة والجدل .. فمن انتمى لثقافتها ولغتها ومنطقها الداخلي  وجغرافيتها الممتدة المتجاورة وحمل قضايا شعوبها ومشروعهم الحداثي  ودورهم التقدمي في التاريخ صار عربياً...

فهي كظاهرة في عصر يطرح ضرورة المواجهة الشاملة مع منظومة النهب وما التحق بها عضويا من منظومات وكالة محلية  تحتاج إلى معالجة جديدة وتنظير جديد يحولها من نسقها المغلق الضيق الساكن إلى نسق مفتوح متفاعل يتسع باستمرار هاضمة في جدلها كل القوميات الفرعية التي تدور في فلك إقليمنا العربي..ولمصطلح " العرب " دلالتين ،فهناك العرب كمصطلح تراثي تاريخي دال علي سكان الجزيرة العربية من بدو رحل وأهل حضر في مرحلة تاريخية سابقة "قبل وبعد أحداث الغزو العربي " وهناك العرب كمصطلح سياسي حداثي دال علي شعوب الوطن العربي المعاصرين.

و ما يعنينا الآن "أي في زماننا الحالي الملبد بغيوم التبعية والتخلف " هم هؤلاء المحدثين العرب والذي يتجاوز فيهم مصطلح العروبة هذا المعني الأحفوري القديم لأنه "أي اللفظ " نفسه قد شحن بمضامين حداثية تجاوزت بمراحل المضمون القبلي الرعوي الذكوري الرجعي الذي يتضمنه اللفظ بمعناه التراثي والذي يُستخدم كثيرا لإلحاق كل نقيصة نفسية وحضارية وقيمية بكتلة الشعوب العربية والتي تنتمي أغلبها وذلك استنادا للشواهد التاريخية والآثرية بشكل ساحق لأمم زراعية " المصريين /العراقيين/السوريين" مرتكنة علي تراث حضاري يتجاوز تاريخيا نشأة وظهور العرب التراثيين أنفسهم .

إذا ..فإن العرب الحاليين ليسوا امتدادا خالصا لهؤلاء التراثيين بقدر ما كان التراثيين هم أيقونة وحدوية تم استخدامها في سياق سياسي حداثي " خلال حقبة التحرر الوطني العربي والتي تولي قيادتها القوميين " لا أكثر و يمكن مع التأصيل التاريخي استبدالهم كأيقونة بما هو أكثر عمقا ورسوخا وفائدة ..

فالعروبة كثقافة وكلغة هي منتج تم تطويره علي مدي زمني طويل و بالمشاركة في منطقة شديدة الخصوبة الحضارية امتدت من جبال زاجروس  إلي برزخ السويس مع إضافات جوهرية من الحضارة المصرية اللصيقة جغرافيا ثم  تدفقت من أكثر النقاط بعدا عن هيمنة إمبراطوريتي الرومان والفرس  " المدن التجارية والزراعية الداخلية والبعيدة عن الساحل السوري " فلا يوجد في تاريخ الكون ما ظهر مكتملاً.. ولكن  تشكلت الظواهر والكيانات والهيئات تدريجيا بالتراكم الطفيف والتغيّرات النوعية الناتجة عن ذلك التراكم الأولى. كذلك القوميات لا تظهر مرة واحدة وليس لواحدة منها  جذورأبدية ولكن تتشكل تدريجيا وفق توافر شروط موضوعية متنوعة.

كذلك ينمو الإحساس بالوحدة النفسية بين شعوب متجاورة عبر وحدة أداة التواصل وهي اللغة ووحدة معيار الحكم وهو القانون أو الشرع أو العرف  أو كل ما سبق.. كذلك تراث من العمل أو الكفاح المشترك ضد عدو واحد... كل ذلك يخلق مع التجاور الجغرافي عوامل الوحدة النفسية أي شعور الفرد هنا أن الفرد في الإقليم المجاور أقرب له من أي فرد أخر في العالم ذلك الشعور الذي يصل بصاحبه أن يعتبر ذلك الآخر ليس آخر وإنما هو جزء من ال (نحن) وليس جزء، من ال (هم).

ولكل قومية بؤرة تركيز وتشكل وتمدد في المكان والزمان وفي حال القومية العربية فقد تركزت وتشكلت تاريخيا حصرا في العصر الأيوبي والمملوكي  وجغرافيا عندما اتحدت مصر والشام في مواجهة عدو مشترك الصليبيين والتتار ... وتعمقت سمات الوحدة النفسية من لغة ومعايير وعمل مشترك...

لقد تشكلت بذور القومية العربية الحديثة في العصر المملوكي... ولقد كان العيب الأكبر في تلك الدولة أنها اكتفت بدور  الترانزيت في التجارة العالمية وبالتالي لم تطور جيش  فتح بري  مثل  الدولة العثمانية ولا أسطول سطو حربي مثل البرتغال أو الإسبان واكتفت بجيش متأخر بمقاييس العصر لخفارة طريق التجارة... لقد كانت القيادة المملوكية منفصلة حقا عن القاعدة الشعبية... وقد شكل الإقطاع العسكري والترانزيت التجاري عقليتها الجيوسياسية.. وسبب ضيق أفقها السياسي...

في الوقت الذي كان على تلك البؤرة أن تنطلق لصبغ مجالها الحيوي بصبغتها.. وكانت أفريقيا خاصة الساحل الشرقي والتي كانت لتشكل الطريق العربي لاكتشاف منابع النيل.. هي المجال الحيوي الأول بالإضافة إلى مجال الشمال الأفريقي وباقي المشرق العربي...لكنها لم تقم بذلك وتركت ذلك قوة هامشية كالعثمانيين، الذين فرملوا انطلاق العرب لعصرهم الحديث.

أما اللغة العربية بنسختها الفصحى فهي تقدم وسيلة للتواصل الوجداني بين ملايين البشر على مساحة جغرافية واسعة ومتصلة وتملك القدرة على الانتشار والتمدد في أفريقيا لتصبح لغة شعوب الصحراء الكبرى أيضا ... تلك اللغة هي الرابط الفوقي الذي يعطي إمكانية لوحدة سياسية اقتصادية مرتقبة بين تلك الشعوب لتحقق الوحدة الوجدانية والثقافية عبرها ..ولذلك فالتمسك بالفصحى مع تبسيطها وتطويرها الدائم هو الضامن الوحيد لاستمرار العربية كأداة من أدوات مقاومة الهيمنة في مواجهة المحاولات المستمرة لتعميق اللهجات الفرعية لتحويلها إلى لغات منفصلة بجانب محاولات إحياء اللغات القديمة رغم استحالة ذلك مما قد  يؤدي مع الزمن لانفصال وجداني بين شعوب الإقليم العربي إن عملية التشظية المتعمدة هي سمة من سمات منظومة النهب أما التركيم فهو طريقنا لمقاومتها فمن يدعو للاستخدام الدارجة أو إحياء اللغات الميته نقاومه بالمحافظة على الفصحى وتطويرها خاصة أن العربية في صلبها هي مصب للغات الإقليم العربي القديمة من مصرية وسريانية وأرمية ويمنية وحبشية ورومية وفارسية  فهي عبر تاريخها عبرت عن ميلاد لغة عالمية من لغات فرعية وهذا منحى تقدمي فيها لا يتكرر مع أي لغة أخرى .

واللغة كأداة لمقاومة الهيمنة  كان من عوامل ثم تداعيات ظهور الدول القومية في أوروبا على قاعدة من علاقات الإنتاج الجديدة أن أفسحت اللغة اللاتينية " اللغة الرسمية للكنيسة والعلم والفلسفة " الطريق أمام نهوض غير مسبوق للغات القومية فكُتب بها الأدب والعلم والفلسفة وتٌرجم إليها الكتاب المقدس وكان نهوض تلك اللغات كبديل عن اللاتينية الجامعة مظهر من مظاهر القوة وتحرر للشعوب من سيطرة الكنيسة والخرافة والجهل وتداعي إيجابي لعلاقات الإنتاج الجديدة . لكن في وضعنا الحاضر و في وطننا العربي، هل الدعوة إلي النهوض باللهجات أو اللغات المحلية والقطرية أمر ممدوح أو مجدي بمعيار تحقق أفضل لمشروع تحررنا وحداثتنا ..؟؟؟

الإجابة  على مثل هذا السؤال لابد أن تنطلق من احتياجات المستقبل ... وعلى قائمة تلك الاحتياجات يأتي "البقاء" على رأسها ... نعم البقاء .. فنحن شعوب مهددة في بقائها وبقائنا مرهون بتحررنا وتحررنا مرهون بفك القيود عن عجلة تقدمنا الاقتصادي والاجتماعي  المشدودة  إلي دولاب عمل منظومة النهب العالمية وذلك يشترط عامل قاعدي وهو إنجاز  تكتل جيوسياسي اقتصادي " يمتد على محاور . محور النيل ومحور دجلة والفرات ومحور الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط "  ليوفر القاعدة الكافية من القدرات الاقتصادية والمواردية والبشرية  لتمويل بناء قاعدة اقتصادية معتمدة على الذات ولعل أهم شرط في تحقيق ذلك  هو وحدة اللغة المستخدمة في التواصل والعمل وربط الجماهير بثقافة ثورية واحدة ومزاج واحد.

.وعلى النقيض مما حدث في أوروبا  فان الأمر هنا معكوسا بشكل ما .. فعلى سبيل تحررنا سيصبح من الأجدى الحفاظ على لغة جامعة بديلا عن تفتيتها عبر تسيد عدد  من اللغات المحلية ... لأن القضية هنا نقيضة لما كان عليه الحال في أوروبا وقت نهوضها فليس من شروط نهوضنا الانفصال عن سيطرة كنيسة مركزية تحتكر المعرفة عبر احتكار لغتها " اللاتينية "  ولا الاتجاه إلى إنشاء "دول قطرية " و"ثقافات "قزمية " و"لغات جيتوية"  بل من شروط نهوضنا هو خلق ثقافة  مشتركة ولغة جامعة لتربط  وتكتل لا لتفتت ما قد أشبعه الاستعمار تفتيتا ...

السؤال الآخر، هل اللغة العربية بنحوها وصرفها وطريقة كتابتها تحتوى على المعايير الكافية  لتكون أداة ثورية كفأه في مناهضة الاستعمار والتحرر منه وإنجاز مشروع حداثتنا التقدمي  ؟؟؟  للأسف الإجابة هي " لا "

فاللغة العربية تحتاج طريقة جديدة للكتابة تكفينا عوار الخط النبطي من صعوبة تضمين النطق الصحيح في صلب الكلمة فهو نمط كتابة فقيرة في حروف الحركة والتي يجب أن تُحل باختراع حروف جديدة للكتابة تشمل الحروف القديمة وما يوازي القيم الصوتية لحركات الضم والكسر والفتح والتنوين والشد إلخ.. فبدل أن تحيط بالكلمة كالزخارف تصبح جزء لا يتجزأ من حروف الكلمة الأصلية .كذلك نحوها وصرفها وطبيعة مفرداتها تحتاج إلى كثير من التبسيط لكي تكون لغة جماهيرية شعبية بمعنى أنه في أوروبا كانت نهضتها مرتبطة بتحويل اللغات الشعبية وتطويرها إلي مرتبة لغة العلم والفلسفة والدين والأدب لكن في حالتنا نحتاج إلي تحويل اللغة العربية إلى لغة شعبية من خلال الاستقاء المستمر من لغة الشعب بعد تصفيتها وتنقيحها  لابد من تحويل اللغة العربية إلى أداة سهلة التعلم سهلة الاستخدام لتكون أداة تواصل في محاور التكتل التي أشارنا إليها سابقا .

و بشكل عام اللغة العربية ليست لغة مطلقة الكمال فهي بيست مقدسة ولا إلهية ولكنها لغة كبقية اللغات تتطور بتطور من يستخدمونها أو تنحسر وتتكلس بتخلفهم وتراجعهم... لا أمل في تطور اللغة العربية إلا في بذل الجهد  على مستوين  الأول هو تطوير البنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع العربي ككل  وكانت لنا في ذلك ثلاث محاولات أخرها هي التجربة الناصرية لكنها انتهت بأن تم احتواءها وتكلس المجتمع وارتد مرة أخرى   والثاني هو إحداث ثورة ثقافية على اللغة الموروثة وانفتاحها على مشكلات العصر وأزمة الإنسان العربي المعاصر وده حصل فعلا وقطعنا فيه شوط كبير جدا.

واللغة العربية ليست من طرح بدو الجزيرة الرحل  فالعربية أرقى من ذلك وإنما هي المشترك اللغوي العام لأمم الطوق الحضاري القديم ومصب صياغاتهم اللغوية المتقاربة والعديدة التي تمازجت واندمجت عبر القرون لتنتج هذه الصيغة النهائية التي انصهرت تماما عبر جدالات لاهوتية وفلسفية عميقة لم تشهد أي منطقة جغرافية اخرى لها مثيل وليس أقل من أن أقول أني كمصري لا أشعر أبدا بالغربة مع العربية ولا أشعر أبدا بذلك الشعور المقيت الذي يحاول أدعياء الفرعونية تصديره لنا من أننا قد فقدنا هويتنا وعلى العكس أشعر بكامل الرضى أن لغة أجدادي القدامى تُشارك في هذا الإنجاز الحضاري الإنساني الغيرمسبوق بنسبة 30% من مجمل جذور ألفاظه ..إن العربية  تقدم المادة الخام المناسبة للغة المقاومة العالمية لمنظومة النهب العالمية  أو لنقل لو كنا أكثر موضوعية لغة المقاومة للقارة السمراء .. إن تلك المنطقة التي تحتل قلب العالم القديم تتعرض لأبشع الهجمات الممنهجة لتدميرها وإخراجها من التاريخ ليس فقط  طمعا في ثرواتها ولكن لأن ما يكمن  فيها من خطورة على بقاء منظومة النهب يجعل كل ترسانة تلك الأخيرة توجه ناحيتها فالاتحاد العربي بصيغته الاشتراكية  في حال صعوده  سيجذب في فلكه محررا أفريقيا كلها وكل القوميات الفرعية من كردية وإيرانية وتركية  بامتداداتها المسلمة في وسط آسيا ولذلك فإنهم يدركون ما في العربية نفسها كلغة من إمكانات مهولة للمقاومة والتحدي لصلف منظمة النهب " كأداة تجميع لا تشتيت "  لذلك فان ما يحدث من إحياء للغات ميته  وإبراز للهجات فرعية هو على الحقيقة ما ينزع منا هويتنا الحقيقية ودورنا التقدمي للمشاركة في إنقاذ العالم من الغول اللاعقلاني لمنظومة النهب  مع باقي الشعوب المقاومة.

لذلك من يدعو لبعث موات الثقافات الحجرية ليعمق هوة التشظي بين شعوب الإقليم العربي نقاومه بتبني ثقافة عربية موحدة بروافدها المتعددة .. فما يميز الثقافة العربية خاصة في عصرها الوسيط أنها ذات طبيعة عالمية إنسانية فالعناصر التي كونت الثقافة العربية انتمت إلى أعراق شتى العربي والفارسي والتركي والرومي والسوداني وحتى الأوروبي كما أن  تلك الثقافة العربية قد مثلت وقتها بحيرة واسعة تستقبل مصبات روافد الثقافات الهندية والصينية والرومية والسريانية والقبطية والمغربية والأندلسية والإفريقية  ما كان يشكل النسبة الساحقة من ثقافات العالم.. فهي ثقافة عالمية في أداتها اللغوية وفي روافدها وفي المشاركين في إنتاجها. لذلك  وعلى العكس من الشائع فالتمسك بالفصحى والثقافة العربية هو منحى تقدمي ومقاوم على عكس الداعين للدارجة وإحياء اللغات الميتة والثقافات الحجرية فهم بوعي أو بدون في خدمة منظومة النهب العالمية ..

كما أن عيب العروبة أو القومية العربية ميزتها أنها قومية تتعدي جغرافيتها السياسية حدود امتداد لسانها فمنابع مصادر الماء  الرئيسية للوطن العربي  تسيطر عليها قوميات فرعية  "الأكراد ،الأتراك، الأحباش "  وبالتالي هي قومية منفتحة بحكم الضرورة علي العالم  الخارجي  عكس قوميات أخرى مثل الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية او الإيطالية أو حتى الروسية والصينية  .. ولذلك فإن الصياغة الجديدة لتلك القومية والتي يجب أن تستوعب كل تلك القوميات الفرعية والتي أخذت وجودها الحضاري الرئيسي وربما الوحيد من مشاركتها في الفاعليات النشطة للحضارة العربية الإسلامية إبان القرون الوسطى  كذلك فقومية فرعية كالفرس عندما هاجروا من خارج المنطقة  واستقروا على حوافها وبدأوا في حمله تكوين إمبراطوريتهم قد أخذوا كل تنظيماتهم الحضارية ومنها الخط المسماري  من إنتاجات الحضارة السورية الكبرى  الجذر الرئيسي للحضارة العربية الإسلامية كذلك فإن الدور المحوري للفرس في حضارة القرون الوسطى  جاء عندما ابدعوا داخل الأطر العربية بوسائطها الحضارية ... إن تضمين الوحدة الأفروعربية  للقومية العربية والقوميات الفرعية المحيطة بها ومد العروبة الثقافية في ربوع إفريقيا "وهو الدور التاريخي الذي تعطل كثيرا بفعل التدخلات الاستعمارية " هو أعمق المهامات الكفاحية الرئيسية للمستقبل .وإن إنجاز الوحدة العربية  "بقوميتها الرئيسية وقومياتها الفرعية  وامتداداتها الأفريقية  " على المثال الصيني،  هو العتبة الرئيسية لتحقيق التحول الفارق تاريخيا من المنظومة الطبقية إلى المنظومة اللاطبقية ...

لذلك من الأجدى اعتبار العروبة هوية مستقبلية أكثر منها أمر قد استقر في الماضي ولذلك فأدلة إثباتها ليست مطروحة في ركام الحقائق التاريخية السالفة ولكن في ثنايا الضرورة التاريخية الملحة لسياق صراعنا حول البقاء ضد منظومة النهب . فأدلة إثباتها ليست موجودة في كتب التاريخ أو الأديان المقارنة أو فقه اللغة ولكن يمكن البحث عنها في ميادين جغرافية الموارد والجغرافيا السياسية وكتب الاقتصاد و التصنيع.

هذا يعني أن العربية يجب معالجتها بمفهوم جديد يتناسب مع المهام الملقاة عليها في مواجهة منظومة النهب العالمية .