الكيان إلى دولة دينية/إمكانية أم إنتحار

عادل سماره


 

لعل أشد ما يتاثر بالمتغيرات الدولية هي الأنظمة التابعة سواء التابعة بهشاشة أو التابعة من موقع ووضع قوي وإمكانات حالة الكيان الصهيوني.لذا أتقن الكيان التنقل من حضن الإمبرياليات الأوروبية إلى الأمريكية وحاول  لاحقاً كسب الحضن الصيني الصاعد وتمكن من إقامة علاقات اقتصادية وطيدة مع الصين منذ 1991 اي بعد أن تكرّس هناك نظام ما بعد الماوية لكن هذا الانتقال أو المرحلة الانتقالية لانتقال الكيان وهي بين حضنّيْ امريكا والصين تتعرض منذ الحرب في أوكرانيا إلى حالة من الشلل النسبي كما يبدو. وفي مختلف مراحل التنقل بين الأحضان كان الاتحاد السوفييتي ومن ثم روسيا حاضن ثانوي للكيان بغض النظر عن سخونة الحضن أو برودته طبقاً للعلاقات العربية السوفييتية وتطوراتها.

هناك  متغيرين في الأشهر الأخيرة اثرا على وضع الكيان هذا وهما:

•  حكومة أقصى اليمين

•  والعلاقات السعودية الإيرانية بوساطة الصين.

بعد ما نشرناه من حلقات"تطورات الكيان"  نتناول هنا الحكومة الصهيونية الجديدة والتي يمكن تحديد ما قامت به في امرين متلازمين:

•  الصراع الداخلي مع منافسها أي التيار الصهيوني العلماني الديني أيضاً

•  والحرب الإيديولوجية بل المتنوعة ضد الفلسطينيين والعرب.

يمكن للمتتبع الحاذق وحتى للمرء السطحي أن يلاحظ بأن هذه المرحلة في المجتمع البشري تتسم بتناقضات عديدة لكنها تنفرد بإثنتين خطيرتين وغريبتين:

الأولى: تطور تكنولوجي هائل

والثانية: تردي أخلاقي هائل ايضا وهو اتساع ظاهرة الدين السياسي والتعصب الدموي على صعيد الكوكب وتحولها في نظر البشرية إلى أمر عادي.

حيث المفترض تناقض المسألتين أو التطورين! فلا يجمع بينهما سوى عالم في لحظة فارقة تضعه على حافة البربرية.

ولأن الكيان الصهيوني هو أول دولة دينية في العصر الحديث  رغم أن هذه الدولة وشَّحت نفسها بوشاح علماني شكلاني إلا أنها أقيمت على:

أولا: عامل قوة ومصالح العرب من مرحلة الميركنتيلية/التجارية للاستعمار للإمبريالية  وليس لا على مبادرة ولا قوة اليهود و الصهيونية (كما أوضح بدقة الكاتب الموريتاني محمد وِلد إلمي الياسيني في الحلقتين 1 و2 من تطورات الكيان)

ثانياً: عامل اوهام توراتية كرواية لا اساس علمي ولا أركيولوجي لها.

ولذا، ليس غريباً هذا التوحش والغرور بالذات من قبل حكومة نتنياهو وشركاه وهو غرور يستثني حقيقتين هما اساس وجود الكيان واستمراره وهما:

•   التخليق والدعم والرعاية من قبل الإمبريالية التي تصدر للكيان كافة أخطر الأسلحة على البشرية وتعلن ان واجبها أن تبقى "اسرائيل" اقوى من جميع دول المنطقة. بمعنى أنها تقاتل نيابة عنها. وبالتالي لم يقاتل الكيان بقوته وحدها يوماً. وهذا يزيد غرور اليمين ولكنه يحاول اللحظة هذه أن يكمل احتلاله للأرض العربية من النيل إلى الفرات ويخص في ذلك دمشق لأنه يرى أن الإمبريالية تتزعزع وبالتالي يجب إعتصار الفرصة واللحظة.هذا رغم أنمشكلة أوكرانيا قلبت كثير من المعايير.

•  ووجود أنظمة عربية رسمية هي صهيونية جوهريا وهذا ما ثبتت صحته على مدار قرن من الزمان أي منذ توليدها وتصنيعها في اتفاق سايكس-بيكو ووعد بلفور للكيان عام 1917 مما يؤكد وجود حبل سُرِّي يربط هذه الأنظمة والكيان مصيرياً.

وهنا لا أود الانتقال إلى الهدنة الإيرانية السعودية، ولكن احتوائها على بند  القبول بالمبادرة العربية يؤكد تهافت الأنظمة العربية وحتى إيران بقبولها إدراج هذا البند وهذا ما يستغله الكيان بسلطته الحالية

وعليه، فإن جنون العظمة من أقصى اليمين لا يختلف عن ما قبله ولكن حظَّه نَكِد حيث أتى دوره في لحظة فارقة في التاريخ تؤكد انتقال العالم من سيطرة القطبية الرأسمالية الإمبريالية (ثلاثي امريكا، الاتحاد الأوروبي واليابان/سمير أمين)  وعليه ليس أمامه سوى هذه المغامرة الانتحارية لاهتبال الفرصة.

من هنا، علينا أن نفهم جيداً ماذا يعني تغير العالم لمستوطن توقع أن يكون في الجنة فإذا به أمام بطولة فردية اسسها مهند الحلبي، ومثقف مشتبك باسل الأعرج ومسدس قدري علقم وماسورة بندقية الفدائيين الجدد . وحين يصل الأمر هذا الحد لا يعود الدين رغم سهولة استخدامه للتزوير والكذب مثابة رُقية نافعة. هذه التشكيلة القيادية في الكيان ليست مجموعة مجانين بل هم يحلمون بتخليص الكيان والنجاة بما اغتصب بما أن وقت السطوة الإمبريالية ينتهي أو أزف بالتأكيد. ليسوا مجانين بل إستثمروا اللحظة حتى الثمالة./المناخ المناسب قبل فقدانه.

كيان يتقاطع ويختلف مع المستوطنات البيضاء:

تختلف التجمعات الاستيطانية عن الأمم المتكونة بشكل تاريخي وبالتالي طبيعي. صحيح أن ما يوحد هذه التجمعات هو منبتها وباعثها الرأسمالي الأوروبي تحديدا فهو وراء المستوطنات الاستعمارية الرأسمالية البيضاء كما أسماها ووصفها إرجيري إيمانويل(1911-2001)،

 

(Arghiri Emmanuel, “White Settler Colonialism and the Myth of Investment Imperialism, New Left Review,no 73, 1972. Colonialism)

 وهي أمريكا، كندا ، استراليا، نيوزيلندا وجنوب إفريقيا سابقا والكيان.وصحيح أنها جميعاً ارتكزت على  ما يسمى تفوق العنصرية البيضاء وعلى تخليق تبريرات دينية ايضاً من طراز ان الله وعدهم ووهبهم الأراضي التي اغتصبوها وابادوا شعوبها الأصلانية قرابين لربٍ ما!

ويبدو أن إيمانويل تاثراً بدعايةالصهيونية وتواطؤ الأنظمة العربية تورط ليكتب (في المصدر اعلاه):

" وفيما يخص اسرائيل يُنسى غالبا انه اذا كان هذا البلد يمثل راس حربه للامبريالية  في الوضع الخاص  والمحدد لسياق التناحر ما بين هاتين القوتين العظميين فان هذا نظرا  لظروف خاصة . إن طبيعتها  الحقيقية هي ان تكون كتلة صغيرة من المستوطنين "البيض "  تتمدد اكثر فاكثر لاستعمار منطقة متخلفة ".

ولكن للحقيقة، فإن الرجل أدرك طبيعة الكيان لاحقاً واصبح من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وضمن نشاط سرِّي بالطبع كما ورد في دراسة في مجلة  Monthly Review اليسارية.

لكن الكيان الصهيوني والذي يشارك من حيث أصله مختلف المستوطنات البيضاء هذه كتخليق رأسمالي كما أوضحنا في سابق الحلقات لكنه يتفرد عنها في أمور اساسية هي التي تقود إلى اقتلاعه، هذا دون أن نذكر حملات الغزاة الفرنجة واقتلاعهم من المشرق العربي على يد صلاح الدين الأيوبي ولاحقا قادة المماليك.

وحيث تحظى كل مستوطنة بيضاء بدولة  متروبول/أم، مثلا امريكا غالبا أمها بريطانيا، وكذلك نيوزيلندا واستراليا، بينما كندا تحظى بفرنسا وبريطانيا...الخ  فإن الكيان الصهيوني  يحظى بمتروبول عام هو النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي وهذا يعني أن وجود الكيان وبقائه مرهون بقوة الإمبريالية وبقائها في الوطن العربي وليس مرهون الأمر بقوة الكيان نفسه أو في أساطير التوراة  وهذا ما عبر عنه كارل كاوتسكي منذ ثلاثينات القرن العشرين وكرره بريجنسكي بعد حرب عام 2006 بعد انتصار ح/ز/ب ا/ل/ل/ه/ على الكيان.

قد يجادل البعض بأن الإمبريالية تخلت عن جنوب إفريقيا للسود . وهذا أمر فيه نقاش كثير أقلُّه أن أهمية جنوب إفريقيا ليست بقدر أهمية الكيان للغرب لأن الكيان يعني السيطرة على الوطن من المحيط إلى الخليج، كما أن ما حصل في حنوب إفريقيا كان نصف لعبة تقريبا، بمعنى أن البيض بقوا هناك وبقي بيدهم الاقتصاد وهم امتداد للغرب الراسمالي وتسلَّم السود السلطة السياسية وتم رفع شريحة سوداء برجوازيةلحماية النظام ناهيك عن ما يعانية من فساد. لذا حين زرت جنوب إفريقيا 1995 كتبت مقالا في كنعان"دولة بيضاء بوشاح اسود". ويختلف الكيان عن جنوب إفريقيا بأن الحالة هناك لم ينتج عنها ظاهرة الطرد أو اللجوء أي الاقتلاع الشامل ولو على مراحل.

وتختلف الحالتان في وجود محيط عربي للكيان هو نفسه مُستهدَف تمت وتتم في الوقت نفسه  محاولات اجتثاث دوره ضد الكيان عبر أنظمة متصهينة ولكن ذلك أمر يتجذر ضد الكيان مع الوقت.

صحيح أن مختلف المستوطنات البيضاء استخدمت  "وعد" الله، أو إله ما  لتبرير فتكها بالشعوب الأصلانية، لكن ما من واحد منها أقام دولته على دين محدد أو على الدين تحديداً، سوى الكيان الذي جمع بين السكان والدين حصريا بمعنى دولة لدين محدد. وهنا نحن أمام لعبتين:

الأولى: غياب اساس قومي للكيان لأنه تجميع من مئة قومية ولذا يكون أو تكون التسمية الدينية او تشكل مخرجاً أفضل لتسمية الدولة كدولة دينية وهذا يختصر ويقمع الثقافات المختلفة والأصول القومية في الكيان.

والثانية: حصر وجود واستجلاب وبقاء سكانها في اليهود حصراً. وهذه الأمور لم تتبناها مختلف المستوطنات البيضاء بينما الأخريات علمانيات.

لا مجال هنا للرد على من يزعمون بأن الصراع مع الكيان بسبب وصفهم له بأنه نظام ابرثايد/فصل/مَيْز عنصري (أنظر هذا في كتاب عادل سماره Debatable Ideas: Polemic Critique, 2020 . أو مزاعم إيلان بابيه بأن المشكلة هي فقط تظهير عرقي، وقد رددناعليه كثيرا في كنعان الإلكترونية ومنها في  كنعان الإلكترونية العددين 4819  4820- آب (أغسطس) 2018) بأن الصراع وجودي وتناحري.

بداية علينا ان نتذكر بأن هناك أدبيات اساسية أُقيمت عليها الدعاية الصهيونية لاجتذاب يهود من العالم، ولكن ليس كل يهود العالم. صحيح أن من مصلحة الكيان تجميع أكبر عدد ممكن من يهود العالم كي يواجه الديمغرافيا الفلسطينية والعربية بالطبع.

ولكن لم يأت للكيان قرابة نصف يهود العالم. وذلك لعدة أسباب منها:

•  رفض بعض اليهود الهجرة من أوطانهم رغم تأييدهم للكيان.

•  رفض بعض اليهود  مغادرة او جلب مشاريعهم المعولمة إلى الكيان ولا سيما شراكتهم في الشبكة المالية الدولية بمعنى أنهم يرون انفسهم، بل مصالحهم،  أكبر من الكيان ويغدقون عليه المال أي يعملون بموجب تقسيم عمل.

 

•  وربما تقسيم عمل سري بين رؤوس الصهيو/دية بمعنى أن تكو هناك :"إسرائيل الدولة"و  "إسرائيل المال" وخاصة في امريكا والغرب عامة وذلك لأجل قوة المال والتاثير وخاصة بعد أن إنتهت أو اضمحلت  تقريبا "إسرائيل" الثالثة اي الوجود اليهودي في روسيا واستيطان مليون منهم في فلسطين المحتلة ولا سيما  بعد انهيارالاتحادالسوفييتي.

وهنا علينا التنبه إلى أنه :

في بداية الاستيطان في فلسطين كانت تركز الحركة الصهيونية على جلب اليهود الأكثر غنىً لحاجتها للمال في مرحلة التأسيس (The Other Israel, edited  by Arie Bobber, 1972.p.41   ). ولكن من اللافت أنها لم تستجلب كبار أو عُتاة المال اليهود مثل روكفبر وروتشيلد...الخ الذين تم الاكتفاء منهم بالدعم المالي.

•  ونظراً لحاجتها لقوة العمل ولكي لا تستخدم الفلسطينيين قامة بحملة استجلاب مختلف أنواع اليهود الفقراء طبعاً وخاصة اليهود العرب من العراق والمغرب.

ولإغراء اليهود الفقراء ومتوسطي الحال، أو يهود البلدان المأزومة اقتصاديا كما حصل في فترة تفكك الاتحادالسوفييتي فقد ركزت الدعاية الصهيونية على امرين بشكل "مميز" عن غيرها:

الأول: بأن هذه الدولة هي دولة المساواة بين كل يهودها وذلك في تمويه لجوهرها الطبقي الراسمالي. وفي الحقيقة أتقنت ذلك الى حد بعيد ولفترة تقريبا لم تنته حيث تقدم الخدمات والرعاية بشكل ملموس ولو بالحد الأدنى، وهذا مثلا يفسر قلة عدد الجواسيس اليهود لصالحنا وكثرة عدد العملاء العرب لها بالمقابل .وبكلام آخر، لم تتواجد في الوطن العربي دولة تشكل نموذجا جذابا لليهود  كي يكفروا بالصهيونية ولا حركة فلسطينية تشكل نموذجاً جذابا لهم ايضاً!

لكن تطورات الكيان الداخلية في الكيان تشي بأن الدولة لم تعد حقا للجميع، هذا إذا كانت، هذا إذا كانت حقاً كذلك،  سواء فيما يخص السلطة السياسية والقوة الاقتصادية والمساواة بالمعنى الثقافي وهذا ما تصرح به المجموعة الحاكمة وجمهورها اليوم. وللفوارق الطبقية والتناقض الثقافي والتمييز بين الأصول العرقية والقومية والألوان  بين اليهود والذي  أسس لحركات اليهود العرب والفهود السود وغيرها أنظر كتاب: (سامي شالوم شطريت:النضال الشرقي في إسرائيل بين القمع والتحرر، بين التماثل والبديل1948-2003 ترجمة سعيد عياس،منشورات  مدار 2005) فهو يشرح المناخ الذي انتهى إلى اصطفاف اليهود العرب والشرقيين عموما وراء الليكود وهو ما يحصل اليوم.

كما لم يحقق الكيان وعده الآخر لليهود بأن الكيان هو المكان الأكثر أمناً لليهود. فلا يخفى على هذا التجمع الاستيطاني بأنه يعيش دوماً حالة حرب بغض النظر عن أنه كسب في الكثير منها لأن هذا الكسب لا ينفي الحلم بحالة من الأمن والأمان لمغادرة العقلية المنفوية التي تعشش في ثقافة اليهودي اينما كان. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن انتقال الكيان من انتصار 1948 و 1967 إلى نصف هزيمة في حرب 1973، إلى هزيمة عام 2000 و 2006 و2014 ...الخ. وصولاً إلى خسارة الكيان الكثير على ايدي الفدائيين الجدد كونهم داخل الأرض المحتلة نفسها. وهذا أوصل الكيان  إلى فقدان دور الهجوم باريحية إلى وضعية الحسابات الدقيقة حتى في الرد، وخسارته بفقدان الردع، كما يزعم البعض،  بل في دوره في العدوان. والافتقار لعنصر الأمن هو كعب أخيل لكيان هو مثابة مستوطنة لا تمتلىء.

هل يجد طرفا التنافس ما يدعمه في بنية الكيان؟

من اللافت أن قيادة طرفي التنافس/الصراع في الكيان هما من شريحة إشكنازية مقابل أخرى وهو انقسام عامودي فعلاً حيث يضم كل طرف شريحة  من الرأسمالية المالية النيولبرالية الإشكنازية بالطبع  وصولا إلى تجمعات اليهود السود في القاع للطرفين. ولكن كتلة اليمين الأشد تطرفاً وتوراتياً كانت الأنجح في اكتساب اليهودالشرقيين وهم الأكثر فقرا منذ 1977 وحتى اليوم.

ومن جهة ثانية نجح الليكود في رفع بعض قادة اليهود الشرقيين ليصبحوا جزءاً من المؤسسة الحاكمة وهذا ما سمح له ولهم أن يُظهروا لقواعدهم بأن الشرقيين شركاء في السلطة وسمح لقيادة الليكود البيضاء بأن تحرك هؤلاء بما يتوافق مع بقاء قيادة الكيان إشكنازية بيضاء أي صار شرطاً لرفع اي قيادي شرقي أن يكون انتهازيا بمهارة، وهذا شبيه برفع شريحة من السود للتبرجز واستلام السلطة السياسية في جنوب إفريقيا

إن قراءة تركيبة الأحزاب في الكيان تشي باختلاف  جوهري بينه وبين المستوطنات البيضاء الأخرى. صحيح أن البُنى الاستيطانية مضادة  أو على الأقل مجافية لتوليد يسار حتى وهي راسمالية متقدمة، وربما لأنها رأسمالية متقدمة بمعنى إذا تأزمت إقتصاديا قد يُرز مناخ توليد يسار جذري،  ولكن حالة الكيان اتسمت إلى حد بعيد بتغييب اللوحة الطبقية مما جعل الآحزاب هناك خليطا طبقياً وهذا خلق فرصة لسيطرة الدين السياسي في مختلف الأحزاب حيث يخدم  بدوره بشكل أكبر في تمييع أو تمويه الفرز الطبقي، ناهيك عن استخدام موقف الفلسطينيين والعرب ضد الكيان كونه تهديد وجودي.

 

لذا، نجد في طرفي التناقض  أو المعسكرين كأحزاب أو كمعسكرين يتبلوران تدريجيا ، تجد من اليهود المليارديرات إلى اليهود سكان أحزمة الصفيح، رغم الفرزالطبقي في قمة الهرم وقاعدته والذي بدأ يظهر منذ 1977 حيث وصلت قيادة الليكود للسلطة وهي برجوازية مالية من توابع المدرسة النقودية  Monetarismل ملتون فريدمان   (1912-2006)حيث مثله فيها سيمحا إيرليخ وزير المالية وتبنت هذه المدرسة حكومة الديكتاتور الفاشي حينها في تشيلي  بينوشيت. وحدهما الكيان وتشيلي بينوشيت تبنيا رسميا هذه المدرسة، ومع ذلك لم يتم استغلال هذا ضد الكيان دعاوياً على الأقل.

هذه البنية من فوق إلى اسفل، اشبه بالبنية الطائفية عموما وفي لبنان خاصة حيث لكل طائفة بنية دولانيتها التي  تضم البيك ومعه الشيخ في القمة والفقير والقبضاي في القاع.

وبالطبع تتقاسم الكتلتان في الكيان الموقف الديني التوراتي.

ففيما يخص الصهيونية المسماة علمانية /يسارية فهي هي نفسها التي اسست لدولة دينية مغطاة بقشرة علمانية وحتى "إشتراكية" الأمر الذي يحتمل عديد التفسيرات. فالصباغ الإشتراكي كان ضروريا في المراحل الأولى لغزو واغتصاب فلسطين كي يستقطب الكتلة الشرقية التي أكدت دعمها لكيان استيطاني جوهره راسمالي أسسته الراسمالية  الأمبريالية. وبهذه اللعبة تمكنت الحركة الصهيونية من تحقيق إجماع دعم عالمي لم تحظى به اي قضية في العالم حيث ضم"المعسكر الراسمالي الإمبريالي، والمعسكر الشيوعي ، ويا للبؤس الفكري النظري، والاشتراكية الدولية الوسطية! وليس هنا مجال توصيف الكيبوتسات والموشاف والتي يشرح جوهرها تلاشيها.

وللتدليل على تغوُّل التحريف اليهودي الصهيوني لليسار وللآشتراكية فإن بير بوروشوف(Borochov Ber, Nationalism, and the Class Struggle: a Marxian Approach to the Jewish Problem (New York, 1937). )كتب بوضوح أنه من أجل أن يتمكن اليهود من إقامة دولتهم الإشتراكية فإن من حقهم اغتصاب ارض شعب آخر. هذا وكأن مصير الاشتراكية في العالم مرهون بوجود دولة يهودية تتحول الى الاشتراكية أي المسيح الإشتراكي المخلص والمنتظر! وماذا لو لم تحصل مثلاً لا سمح الله!!!. وبالطبع حصلت الدولة ولكنها تمخضت عن حالة عنصرية راسمالية بالمطلق.

ولعل هذا الاستكبار إنما دليل في حينه على الأقل على خنوع معولم للصهيونية.

يقوم الفريق الإشكنازي ، أيضاً الإشكنازي، الحاكم اليوم مجسدا في قيادته الثلاثية ،نتنياهو، بن جفير وسومريتش يإعلان الانقلاب على الشكل الوسطي من الدولة الدينية إلى دولة دينية بموجب الشريعة على النمط الإيراني كما بيننا في حلقة (3).

وفيما يخص سيطرة الإشكناز على قيادة الطرفين، قال بروفيسور شرقي متهكماً :

"... إن الشرقيين مثابة كيس التدريب على الملاكمة  الذي يتدرب عليه الاشكناز من الطرفين ويدعي ان في الحكومة الحالية اغلبية اشكنازية تستند على الشرقيين مثلما كان حزب العمل يعمل بهم وهو في السلطة !       الليكود يُعرِّف نفسه كيمين ليبيرالي اقتصادي وهو اقرب للحزب الجمهوري بامريكا ، جنوده ومصوتيه من الشرقيين بشكل اساسي . الطبقة المسيطرة هي اشكنازية ورأسمالية ، قسم منها انضم الى المتظاهرين وهو يريد تغيير حكم الاشكناز ُبناة الدولة  عبر المحكمة العليا . اليهود الروس اشكناز ، يدعمون اليمين سياسياً ، وهم من الطبقات الفقيرة اقتصادياً ، وتتمتع باعلى مستوى ثقافي بين تشكيلات الطوائف اليهودية المختلفة ، وهم علمانيون بالكامل ويرفضون اليهودية الرسمية والمحافظة ، ليبرمن يمثل هذه المصالح . ما يسمى احزاب اليسار انتهت ولم تعد تمثل طبقياً الطبقة العاملة ، اذا جاز توصيفها هكذا . الاحزاب الاخرى الوسط _ يمين او يسار ، يعرفون انفسهم ليبيراليين ومع الاقتصاد الحر . والاحزاب الدينية برمتها لا اساس طبقي لها ، معظمهم فقراء ويعيشون على حساب الدولة ولا يخدمون بالجيش وهم لا يعترفون بالصهيونية .

وكما يرى الرفيق رجا إغبارية بأن " الصراع الدائر هو بين دولة الاشكناز الاولى وخليط الاشكناز والشرقيين والمتدينين  اليمينيين لدرجة الفاشية"

إن الخلفية التوراتية والفلسفية  هي التي تثقف عليها فريق السلطة الحالية في الكيان لأن هذا الفريق تتلمذ على الاباء الإيديولوجيين وخاصة الجدد للديانة اليهودية والذين يريدون  تحويل "إسرائيل"  إلى دولة شريعة على النمط الإيراني كما يقولون وكما أوضحنا في الحلقة الثالثة.

لكن اللافت، أن هذا التيار شديد الأصولية من جهة، ولجأ إلى "التُقية" حيث لم يعلن مخططه قبيل الانتخابات إذ انتظر لما بعد فوزه  ليقدم ويحاول تطبيق برنامجاً يأخذ الكيان إلى أقصى التطرف الديني والسياسي والعرقي. فهو غيَّر في الدرجة وليس في النوع لأن التيار الجديد ليس نقيضاً للسابق كما يزعم بل هو تصعيد لجوهر الحركة الاستيطانية الصهيونية الدينية التوراتية مأخوذ بالطبع بهدف السيطرة على السلطة من دوافع طبقية قيادية داخل الطبقة الواحدة نفسها أو القشرة الراسمالية العليا. وقد اصبح معروفاً بأنه داخل الطبقة الواحدة في اي مكان هناك شرائح  في الطبقة الواحدة  كما جادل بولنتزاس ويمكن أن تتناقض مصالحها فالطبقة في علم اليوم لم تعد تُقرأ على أنها كتلة واحدة وخاصة حين تنتقل من:"طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها/ماركس"

وعليه، فقد نجح هذا التيار الأكثر أصولية يهودية في توظيف الصهيونية العلمانية/الدين سياسية في توفير أو توفر المناخ لمشروعه التوراتيّ جداً ، ثم الانقلاب عليه بعد أن اعتقد بأن الكيان قد تمأسس وتمترس وكأن كافة الظروف الإقليمية والعولمية حُسمت لصالحه وإلى الأبد! ولكن، مؤاتاة الظروف الإقليمية والدولية لم تعد قائمة كما كانت سابقاً بل تشي تطورات العالم بأنه مجافٍ ومجافٍ أكثر.