المصطلح.. أخطر الحرب الناعمة وأقلها كلاماً

إبراهيم أحنصال

ابتداءً، المصطلح بمعزل عن تصنيفه في خدمة أية طبقة أو دولة هو من حيث الحمولة اللغوية: دمج المعنى أو المحمول في أقل أحرف أو كلمات ممكنة على أن يقدم مفهوماً ما، إنه تكثيف لغوي لواقع مادي. وحرب المصطلحات هي امتداد للحرب الثقافية كجبهة من جبهات الحرب الشاملة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، التي يباشرها المركز الرأسمالي الإمبريالي على بلدان المستعمرات وأشباهها في الأطراف وفي القلب من هذا الاستهداف الوطن العربي. فالمصطلحات التي يتم تظهير استخدامها على أنها تقنية بريئة ليست كذلك بل وعاء حمال لمحتوى معين، فهي قد تلعب دور المسكنات والمخدرات أو المهيجات والمنشطات أو الإخصاء والتعمية أو التحفيز على النقد والتحريض على الفعل... لكن قطعاً ليست محايدة في الاستعمال والتوظيف لها. ويكفي الوقوف عند غزارة المصطلحات التي يتم إغراق الحقول الثقافية والسياسية والتعليمية والإعلامية بها، وتحديد مصدر إدارة هذه الحرب والآثار الوخيمة المترتبة عنها ما يجعل من الاشتباك وصَد هذه الهجمة أكثر إلحاحية.

فالمركز الإمبريالي الذي أنشأ وطور مختبرات الأسلحة الجرثومية وشن بها حروبا بيولوجية محققا "المالتوسية الجديدة"، هو بنفس القدر وأكثر يمتلك مراكز/ مؤسسات/ مختبرات لإنتاج دعاية جرثومية يشكل المصطلح أحد ترسانتها الحربية، بالسعي لإحلال مصطلحات بعينها في مجال التداول والإفراط في ضخها وتكرارها من أجل إكسابها نوعا من البداهة وسطوة على مستعمليها، على حساب تعتيم وتحييد كلمات ومفاهيم بعينها حاملة ومعبرة عن مشروع نقيض.

وهنا لا نتحدث عن قواميس اللغة واشتقاق المفردات مما يعني المختصين، بل عن حرب مصطلحات تخترق الوعي الجمعي وتشله عن المقاومة والكفاح يتم إقحامها وفرضها بسطوة دكتاتورية رأس المال، وليس لوجاهتها وقدرتها على الإقناع وحاجة المجتمع التواصلية إليها. أو يتم قرصنة مصطلحات ومفاهيم علمية وثورية وإفراغها من محتواها الطبقي وتمييعها، ولعل مفهوم الثورة هو الأكثر عرضة لهذا التزييف البرجوازي. حيث يتم مسخها تارة إلى قرع الطناجر وإشعال الشموع والغناء من البلكون أو عزف الموسيقى والرقص في الساحات، وتارة أخرى تأخذ وجها ملونا كالقرنفل والأرز يتصدرها نشطاء دربتهم وتحركهم من خلف الستار المخابرات المركزية الأمريكية، مركزة عملها لجر الصراع حتى ينفجر طائفيا ومذهبيا وعرقيا وتدمير البنى التحتية لتنتهي إلى المطالبة بـ"الحماية الدولية" أي استجرار الغزو الاستعماري للبلد، فهي إذن ثورة مضادة، إنها تضرب في كل اتجاه إلا تغيير نمط الإنتاج الرأسمالي وعلاقات إنتاجه وإبقاء التبعية والحفاظ على النزح. ونفس التمييع والتسخيف يتعرض له: الحزب الثوري، ديكتاتورية البروليتاريا، الرفيق، المناضل، الالتزام... ليتم استدخال مصطلحات استعمارية هي تعبير عن التبعية الثقافية بالموازاة مع التبعية الاقتصادية والسياسية. فلننشب مدماك النقد في هذه العينة من المصطلحات:


نظام الفصل العنصري: هذا المصطلح يطلق كتوصيف للكيان وقد شاع بفعل تقارير المنظمات الحقوقية، وخطورته أنه يطمس جوهر الكيان باعتباره استعمارا استيطانيا إباديا واقتلاعيا، ليموه هذه الحقيقة إلى مجرد اضطهاد عنصري، حيث يسلم للعدو بالوجود الطبيعي على الأرض مثله في ذلك مثل الشعب العربي الفلسطيني صاحب الأرض إنما يجب إلغاء عنصريته! ومن جانب آخر فأصحاب هذا المصطلح يتقصدون أن يناهضوا النتائج: الفصل العنصري، بدل مواجهة السبب واقتلاعه من الجذر: الاستعمار الاستيطاني. لأن الانحياز لأي خيار يترتب عنه نهج في المواجهة، ففي الخيار الأول تصبح المسألة حقوقية صِرفة يتم حلها بـ"النضال السلمي" وبرفع التقارير الدورية إلى منظمات وهيئات المركز الامبريالي، وفي أقصى الحالات تواجه بـ"المقاومة الشعبية السلمية". أما الخيار الثاني فإنه يضع في اعتباره أنه لا مجال لأي شكل من أشكال التعايش مع الاستعمار إلا بزواله، وأن العنف الثوري بتنظيم وتوجيه وتسليح قوى الشعب هو الكفيل بنفيه. وغير خاف أن الخيار الأول الحقوقي البرجوازي يخدم في نتائجه إطالة أمد الاستعمار الصهيوني إن لم نقل إنه إحدى إفرازاته، وليس نقيضا له. بينما العلاقة مع الكيان المؤقت هي علاقة تناقض وصراع تناحري وجودي تستوجب استنهاض وتنظيم قوى الشعب وتسليحه لإنجاز تحرير كامل فلسطين.
كما أن مصطلح نظام فصل عنصري يعني بأن لنا وللعدو حقا في الوطن، بغض النظر عن تفاوت النسبة الجغرافية، وبأننا غاضبين لأنه يميز ضدنا ويرفض التعايش معنا، وبأن توقف التمييز هو أعلى ما نريد لأننا نطمح في التساكن والعيش معه، وهذا تقزيم لطبيعة الصراع وتبهيت لمستوى النضال.

الناشط: ويُستعمل المصطلح كبديل عن المناضل. فإذا كان الأخير يُحيل على الالتزام الحزبي أو يضع في صميم نضاله بناء التنظيم الحزبي، ويؤشر على مرجعية نظرية ثورية مرشدا للعمل والتطوع دون مقابل في سبيل خدمة قضية الكفاح ضد الاستعمار وضد الاضطهاد الطبقي البرجوازي، وما يستوجبه ذلك من تضحية ترقى أحيانا إلى الاستشهاد. فإن الناشط هو عمل في حد ذاته يتقاضى بموجبه أجراً أو حوالات مالية أو تذاكر سفر في الطائرة وإقامة في الفنادق أو تمويل مركز بحوث أو إصدار جريدة أو طبع مؤلف...، علاوة أنه مجند ضمن إحدى المنظمات أو الشبكات "غير الحكومية" ووفق ما يرسم له من خطط وإملاءات، أي أنه يقلب الأولويات والمهام المطروحة في المستعمرات وأشباهها كـ: الكفاح المسلح لجلاء الاستعمار والتصدي لمنظومة النهب الدولي وقطع علاقة التبعية...؛ إذ هو لا يعترف بفارق الأولويات واختلاف المهام المطروحة وبتفاوت التطور بين بلدان المركز الرأسمالي الإمبريالي وبين البلدان التي ترزح تحت النير الاستعماري، بدلا من ذلك يتم تفتيت القضايا إلى جزيئات منعزلة وتضخيم الجزء على حساب ما هو مصيري، كجعل المشاركة في البرلمانات الرجعية وزعم بناء الديمقراطية بمفهومها البرجوازي يتقدم على الكفاح من أجل التحرر الوطني والاجتماعي، وتصبح "المثلية الجنسية" و"الجندرية"... مدخلا لتمزيق وحدة نضال ومصير الشعب وتشتيت جهوده وتنفيره. كما أن من مسلكيات الناشط أنه ملزم بإنجاز التقارير والتقاط الصور ورفعها إلى الشبكة أو الجهة الممولة التي يفضلون تسميتها "الجهات المانحة". ومن هنا يتقدم عنده تسويق أنشطته الاستعراضية والدعاية لها مموها ذلك بتعبير "الشفافية"؛ عكس المناضل الملزوز بالمزاوجة بين السرية والعلنية لتفادي القمع والاختراق، والمأخوذ بجدلية الهدم والبناء وإحداث التراكم النوعي والكمي.
إن الناشط هو فرد لا يعمل ضمن فريق عملاً جماعياً، وهذا عكس الحزبي المناضل. كما أن الناشط يمكن أن يكون -بل غالباً- ليس صِدامياً لأن عمله فردي، محكوم بعلاقاته الخاصة مع مصادر منظمة لها سياساتها واستراتيجيتها؛ بينما الحزبي يعمل ضمن إطار جماعي هدفه وطني وطبقي وأممي في حالة المناضل الحزبي الثوري المشتبك، ولذا فالناشط مؤقت الدور وجاهز للمساومة، أو يبدأ مساوما وينتهي عميلا خائنا، بينما الثوري مشتبكاً.

الشرق الأوسط: لعل من أوائل من نقدوا هذا المصطلح الجغراسياسي وكشفوا خلفيته الاستعمارية هو الشهيد غسان كنفاني منذ 1968 (أنظر: فارس فارس، الصفحة 111)، حيث أرجعه إلى السياسة الاستعمارية البريطانية التي حددت إلى جانبه كذلك مصطلحي "الشرق الأدنى" و"الشرق الأقصى"، باعتبارها -بريطانيا- هي "مركز العالم" وقاست عليه الكون بحسب القرب والبعد من جغرافيتها. وعلى نفس المنهج النقدي يُرجع هادي العلوي (أنظر: محطات في التاريخ والتراث، الصفحة 169) استعمالات الشرق الأوسط والأدنى والأقصى إلى مصادرة أورومركزية، والتي تعتمد مقاسات بحسب البعد عن أوروبا ضدا على حقائق الفلك والجغرافية. المصطلح إذن هو بخلفية استعمارية في علاقة الغرب الامبريالي مع مستعمراته، والإمعان في ترديد هذا المصطلح هو استلاب فكري وسياسي ورضوخ لإرادة المستعمر.
لقد سبق لوزيرة خارجية الامبريالية الأمريكية السابقة (كوندوليزا رايس) أن طرحت عام 2006 ما سمته "الشرق الأوسط الجديد"، وإعلان السعي إلى إحداث "تغيير" عبر اعتماد أسلوب "الفوضى الخلاقة" بتفجير الصراعات الاثنية والعرقية والمذهبية والطائفية وصولا إلى مزيد من إضعاف وتفكيك وإهلاك الأقطار العربية، للدمج القسري للكيان الصهيوني بشكل يهيمن. فكانت من مقدمات هذا "الشرق الأوسط الجديد" هو عدوان حرب تموز 2006 الذي هدف إلى استئصال المقاومة في لبنان، لكن إفشال المقاومة لهذا العدوان جعل العدو الأمريكي يُنوع من تكتيكاته مع الإبقاء على نفس الاستراتيجية. إن الجديد في هذا "الشرق الأوسط الجديد" الأمريكي، هو اعتماد وتطبيق أجيال جديدة من الحروب واستعمال أحدث أسلحة الإبادة، أما من حيث الجوهر الاستعماري فهو هو. ومن ضمن أهداف فرز واستخدام هذا المُصطلح تحقيق هدفين خبيثين:
الأول: اعتبار الكيان الصهيوني ضمن بلدان هذا المصطلح الجغراسياسي وبالتالي إضفاء الشرعية على الكيان وتمرير الاعتراف به.
والثاني: التهرب من تسمية الوطن العربي في موقف معادٍ للعروبة. لذا حين يتم تِعداد بلدان هذا المصطلح يُقال، تركيا، إيران، ثم يُذكر كل قطر عربي على حدة وكأنه يمثل أمة منفصلة عن الأقطار الأخرى، أي يُقال مصر، سوريا الجزائر...الخ.
 
الشَّرَاكَة: ويُعنى بها الاتفاق أو الاتفاقية التي تبرمها بعض الجمعيات والمنظمات من البلدان المستعمرة وأشباهها مع إحدى دول المركز الامبريالي أو إحدى مؤسساته، والمصطلح ظاهريا يوهم بأن هناك علاقة ندية متكافئة بين الطرفين ليخفي علاقة التبعية ويُمَوّهها، فـ"المقاربة التشاركية" المزعومة هنا مبنية على علاقة مختلة التوازن بين طرف ذيلي يشحذ ويتسول من قوى هي في موقع السيطرة والتحكم تملي شروطها، وسواء أكانت هذه الشروط المملاة متضمنة في بنود "اتفاقية الشراكة" أم مدسوسة كتوجيه وسياسة عامة، فهي تخدم في نهاية المطاف استراتيجية الامبريالية. وتجدر الإشارة أن ما يطغى على هذه "الشراكات" هو شعارين أساسيين: التنمية البشرية أو التنمية المستدامة من جهة، ونشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية عليها من جهة أخرى، (لاحظوا كيف صارت حقوق الإنسان تحتاج إلى إذن -للدقة تمويل- من الأوصياء من أجل نشر ثقافتها، أي من بلدان الامبريالية التي تذبح شعبنا بالحروب الإبادية والحصار التجويعي والنهب من المحيط حتى الخليج!!).
وإذا كانت الخلفية والمغزى الذي يحرك ويتحكم في هذه الشراكات من جانب الدول الامبريالية ومؤسساتها هو إعطاء وجه "إنساني" لمشاريعها النهبوية وتسهيل اختراقها لمجتمعاتنا، فإن الجمعيات والمنظمات ومراكز الدراسات التي يتم استقطابها تكون مهيأة من حيث بنيتها التنظيمية الرخوة وتركيبتها التي يغلب عليها الطابع البرجوازي الصغير، فتكون عناصرها سهلة السقوط لما تدره عليهم هذه "الشراكات" من أموال وأسفار عابرة للقارات ولقاءات في فنادق باذخة؛ وهذا النوع من الارتزاق المالي لا يتم بالضرورة صرفه (كاش)، فقد يكون على شكل منتديات أو أيام دراسية أو تكوينية وتارة أخرى على شكل إنجاز تقارير موجهة...، ثم إن الغرب الامبريالي ليس مأخوذا بالبحث عن شركاء له أو حلفاء في بلدان المحيط بل تجنيد عملاء له بطلاء "الشراكة". (أنظر: عادل سمارة، منظمات غير حكومية أم قواعد للآخر، الصفحة 14).
والشراكة بالمنعى المطروحة به هي بين أنظمة المركز الإمبريالي التي هي منتخبة ولو بالشكلانية الرأسمالية اللبرالية، وبين أنظمة المحيط التي تفتقر حتى إلى شرعية انتخابية لبرالية، ليست هذه الشراكة بين الشعوب وليست تحديداً بين الطبقات الشعبية قط؛ ولذا فهي تحمل مضموناً طبقياً لصالح رأس المال في الطرفين يتمظهر في التبادل اللامتكافىء بين الطرفين، حيث تبقى اليد العليا لرأسمالية المركز. إن هذا المصطلح شكلانياً تحالفي وجوهريا تتبيعي.

الجهات المانحة: وهي تسمية مموهة للقوى الامبريالية والنظم الرجعية التي تغدق الأموال والدعم، فهل يمكن لهذه القوى أن تدعم أو تمول أية قضية عادلة هي على الضد منها، إلا من باب تمييعها ونخرها من الداخل لاحتوائها ثم نسفها وتخريبها. فالمعونات والتمويلات التي تقدمها المؤسسات الامبريالية من اتحاد أوروبي أو أمريكا أو اليابان وحتى المشيخات العميلة في الخليج العربي، وباء فتاك ينخر أغلب الإطارات السياسية والحقوقية والنسائية والجمعوية، بله الكثير من مراكز الدراسات الموجهة ومن يصنفون مثقفون وكتابا وصحفيين، تحت ستار دعم "المجتمع المدني" و"الهيئات غير الحكومية" و"تشجيع الابداع"... ولأن في السياسة والعلاقات الدولية القائمة على التناقض والتناحر ليس ثمة فيها عمل خيري أو بِرّ وإحسان، بل مصالح ومجال حيوي وتكريس نفود، فإن هذه التمويلات مسمومة تُشترى بها ذمم ومواقف سواء كانت معلنة وسافرة أم مستترة خلف شعارات براقة.
وهنا لا مجال للمفاضلة في السم الزعاف مهما كان الادعاء أنه "دعم غير مشروط"! وأنه لنشر "ثقافة السلم والتعايش" و"نبذ الكراهية"، أو تحت ستار تعميم "تقنيات التواصل والمرافعة"، أو لـ"التربية والتكوين على ثقافة حقوق الإنسان"... ناهيك عن لقاءات الفنادق الفخمة والسفريات المدفوعة الأجر. فالكل هنا يصبحون مجرد أدوات فاقدة لاستقلاليتها ومخالب توظف على مسرح الصراع الدولي، بما يخدم تلميع ويسهل تمدد مشاريع الإمبريالية وإطباق سيطرتها واستدخال الهزيمة والاديولوجيا المهزومة في مجتمعاتنا، وهذا ما يفسر في جانب منه تطابق بيانات الهيئات على اختلاف مسمياتها في تماهيها مع العدوان الذي شنه حلف الناتو على ليبيا وسوريا وصولا إلى الحرب في أوكرانيا، حيث تذيلوا المعسكر الامبريالي الصهيوني بلا أدنى مواربة.
تخفي هذه التسمية حقيقة خطيرة، فعلاوة على أنها تُظهر أنظمة المركز كطرف خيري فإنها تُعفي المركز من تاريخه النهبوي في المحيط، وبأن ما تم من تطور فيه قد جرى تمويله بدرجات كبيرة من النهب الذي حصل عليه في فترات الاستعمار. وأبعد من هذا، فهو يخفي حقيقة التبادل اللامتكافئ بين المركز والمحيط حيث تتم تحويلات هائلة من المحيط إلى المركز عبر شراء منتجات المركز بتنوعها، مما يُبقي على المحيط سوقاً مربحة للمركز. وعليه، فإن مِنح المركز ليست سوى قيمة ضئيلة من تحويلات المحيط إلى المركز. أما على الصعيد الطبقي، فإن هذه العلاقة بين مركز ومحيط تُنشئ طبقة حاكمة في المحيط تتشابك مصالحها مع المركز إلى حد ترفض معه تغيير اتجاه العلاقات الاقتصادية. لننظر مثلا، لماذا لا يتجه لبنان شرقاً وينتظر مساعدات أوروبية مذلة. إن معظم الأنظمة العربية حتى الجمهورية لم تتجه شرقاً لا في فترة السوفييت ولا بعدها بعد!
من جهة أخرى، فالدول المسماة مانحة تفرض علاقة مباشرة لها مع طبقات أو فئات في بلدان المحيط مما يعني:
• اختراق سيادة الدولة التابعة أو ازدواجية السلطة فيها.
• والجرأة على تجنيد بعض قيادات الإثنيات في بلد ما للانفصال.

عيد الاستقلال: بات لكل قطر عربي "عيد استقلال" يخصه! فالأقطار التي هي من سَلْخِ وتجزيء الاستعمار بعد أن أنشب تمزيقا في كامل جغرافيا الوطن، مستنبتا حدودا وهمية وتفتيتا لوحدة نفس الشعب، حتى يعمق إضعاف واحتجاز تطور تلك الأقطار وإلحاقها كاملة بالتبعية للمركز الامبريالي، ويفرض إدماج الكيان الصهيوني كمهيمن عليها سياسيا واقتصاديا. هنا الاستقلال صوريا وليس فعلا ناجزا تتحقق في ظله السيادة في كافة أبعادها، بل هو تسليم بالهيمنة الاستعمارية وخضوع للوقائع الجغراسياسية والاقتصادية التي فرضتها. وهل هناك تضليل أكبر من ادعاء استقلال أي قطر في ظل ارتهانه وتبعيته اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لمنظومة النهب الدولي، وفي ظل استعمار جميع الأقطار العربية وانتشار القواعد العسكرية وأوكار الجاسوسية فيها. إن "أعياد الاستقلال" هي محض مزاعم للحؤول دون تشكل حركة جماهيرية لخوض الكفاح المرير لإنجاز مهام التحرر الوطني والقومي، من الاستعمار والكيان الصهيوني والأنظمة العميلة الحاكمة.
كما يترتب على مصطلح الاستقلال في بلدان المحيط حديثاً موسعا عن انتهاء الاستعمار ومن ثم تطوير نظريات "ما بعد الاستعمار"، في حين أن ما جرى في معظم البلدان المحيطية هو تبدل في مظهر الاستعمار. وكل هذا يخفي المسألة المركزية وهي غياب الاستقلال الاقتصادي، أي أن الاستقلال السياسي هو طربوش لصالح الرأسمالية المحلية.
 
الطبقة السياسية: ويراد بها كل من ينخرط في الفعل السياسي سواء من موقع السلطة البرجوازية الحاكمة وفي خدمتها أم من يخوض الكفاح ضدها للإطاحة بها وافتكاك السلطة منها. فالمصطلح هنا هو لطمس الحد الطبقي الفاصل بين النقيضين وإظهارهما بموضع التماثل يستوي فيه النقيض بنقيضه، وهذا التعميم هو من صميم الممارسة السياسية والاديولوجية للطبقة البرجوازية الحاكمة، بحيث تموه عن مصالحها وتفرض سيطرتها السياسية على أنها مصالح وسلطة للشعب وأنها السياسة الوحيدة الممكنة: "فن الممكن"، وبالتالي جَرّ أي نقيض لها إلى أرضيتها السياسية واحتوائه ضمن أفقها هي، وصولا إلى تجريد الطبقة العاملة من سلاحها النظري والتنظيمي بالحؤول دون بناء حزبها الثوري باعتباره هو "أركان حرب لكفاح البروليتاريا" وفق تعريف ستالين. كما أن مفهوم الطبقة يتم تجريده من أساسه المادي وبمعزل عن محدداته: موقع المجموعة الاجتماعية في نظام الإنتاج الاجتماعي المحدد تاريخيا، وعلاقة هذه المجموعة بوسائل الإنتاج ودورها في التنظيم الاجتماعي للعمل، والقدر والأسلوب الذي تستحوذ به على نصيب من الثروة الاجتماعية، هذا وفق تحديد لينين.
وغالبا ما يُقصد بهذا المصطلح النظام السياسي في بلد معين، وبهذا الاستخدام يتم تمويه وتضييع المبنى الطبقي في هذا البلد أو ذاك، حيث تبدو "الطبقة السياسية" بأنها نظام الحكم وبأن بقية الشعب جمهور غير محدد المعالم ولا إشكالات له مع تلك الطبقة، وبالتالي ليس نقيضاً للسلطة الحاكمة. فكل مجتمع في ظل الرأسمالية سواء متقدمة أم محيطية هو مجتمع طبقي، وما تسمى "الطبقة السياسية" شريحة إدارية هي جزء من الطبقة الرأسمالية في البلد نفسه. إن تمييع مفهوم الطبقة هو تمييع لحتمية الصراع الطبقي.

الدولة المدنية/ العسكرية/ الدينية: تطرح الدعاية البرجوازية الدولة المدنية كنقيض للدولة العسكرية وللدولة الدينية، وهذه الأحبولة تستهدف التعتيم عن الطابع الطبقي للدولة بما هي أداة للإخضاع وللاضطهاد الطبقي ولسيطرة طبقة على باقي الطبقات الاجتماعية، وهنا يصبح نعت مدنية أو عسكرية أو دينية مجرد قشرة سطحية للتعمية عن المحتوى الطبقي. إذ ما الفارق بين أن يكون للدولة مظهر مدني أو عسكري أو ديني ما دام جوهرها طبقي رأسمالي تبعي في خدمة قوى الهيمنة الامبريالية والصهيونية؟ ألم يكن للدولة في السودان على مدى عقود من الزمن مظهر عسكري وديني في نفس الوقت؟ وفي السعودية نظام ديني ثيوقراطي؟ أليس النظام الحاكم في المغرب حريص على أن يكون للدولة مظهر ديني (إمارة المؤمنين) ومظهر مدني "حداثي"؟ ألم يكن النظام الحاكم في تونس على أزيد من نصف قرن حريصا على المظهر المدني العلماني للدولة؟ فما وجه الاختلاف بين هذه الدول في صون ثروات الأمة وإنجاز التنمية المستقلة وتقرير الشعب لمصيره؟ أين تفرق هذه الدولة عن تلك وكلها دول جَزَّأها الاستعمار وهندس لها حدوداً وهمية وألحقها بالتبعية له؟ أليس هو من نصب أنظمة عميلة ويحميها لتدير تلك الدول القطرية لصالحه؟ إذن، القضية ليست الاختيار بين مظهر مدني أو عسكري أو ديني للدولة القطرية ما دامت في النهاية مستعمرة تحت سيطرة طبقة برجوازية متخارجة، والبديل الفعلي هو دولة مركزية ديمقراطية اشتراكية الهدف، تحت سلطة مجالس الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء.
كما أن الدولة الدينية هي الدولة التي تجعل من الدين برنامجها السياسي وكذلك تفعل أحزاب الدين السياسي. ومن المهم هنا أن ننتبه إلى أن الغرب كثيرا ما يتهم إيران بأنها دولة دينية، وبعيدا عن دقة التوصيف من عدمه، فإن أول دولة دينية في العصر الحديث هي دولة الكيان الصهيوني.
 
العدالة الاجتماعية: رغم قدم المصطلح فإن شيوعه بكثافة جاء مع رِدّة التبرجز التي اجتاحت تنظيمات اليسار في ذروة تهالكها وانزياحها نحو الإصلاحية، وتكييف خطابها انتهازياً استسلاماً وخضوعاً لعبودية رأس المال، فوجدت في هذا المصطلح المثالي العائم والمجرد جسرا للانسلاخ والتملص من الكفاح في سبيل الاشتراكية ونفض برنامجها من الالتزام بالثورة. فأي معنى "للعدالة الاجتماعية" في ظل الإبقاء على الاستغلال والاضطهاد الطبقي الذي يجد أساسه المادي في المِلكية الفردية؟ وهل يمكن تحقيق هذا الشعار المائع مع بقاء الارتباط بالسوق الرأسمالية العالمية والخضوع لتقسيم العمل الدولي؟ إن "العدالة الاجتماعية" ليست في التحليل الأخير إلا سعي لتلطيف نظام الانتاج الرأسمالي وتجميل استغلاله وإضفاء مساحيق "الإنسانية" على بشاعته، إنها -في الراهن- شعار المرتدين عن الاشتراكية.
ومن جهة أخرى فمصطلح "العدالة الاجتماعية" موظف في خدمة السلطة تماماً والإقرار بشرعيتها، حيث أن أعلى مطلب للناس هو عدالة من سلطة، بل أي سلطة، تقدم مصالحها الطبقية على مصالح الطبقات الأخرى. فمطلب "العدالة الاجتماعية" هو مطلب القبول بالسلطة لا الاعتراض الثوري عليها. والأخطر أنه مصطلح ينفي وجود الطبقات وبالتالي ينفي الصراع الطبقي، وهذا يوفر أكبر خدمة لرأس المال. ولذا فأية قوى ماركسية ترفع هذا الشعار فذلك لأنها أصبحت مدجنة.

المجتمع الدولي: مصطلح إمبريالي بامتياز، ويراد به تبرير إخضاع بلدان الأطراف لمشيئة ومصالح المركز الامبريالي، والتي يتم تكييفها عبر قرارات "مجلس الأمن" أو المنظمات التابعة له. بحيث تُنتهَك سيادة الدول وتُجبَر على تنفيذ ما يُملى عليها بتعلة أنها صادرة عن "المجتمع الدولي"، أي إلزام الدول في غالبيتها وذات الكثافة السكانية الأعلى لدكتاتورية مصالح الامبريالية وتحديداً منها الأمريكية. وغير بعيد عن هذا المصطلح يرادفه تعبير "كما هي متعارف عليها دوليا"، وكأن التعريفات الدولية منزهة عن الصراع ولا تخضع لميزان القوى العالمي، أو أن الشعوب المستعمرة تم استفتاؤها ومُراعات مصالحها في وضع هذه القوانين والتعريفات وليست مفروضة تعكس مصالح وهيمنة القوى الامبريالية.
إن هذا المصطلح هو من صياغة الإمبريالية التي وضعت أو أقامت مختلف ما تسمى المؤسسات الدولية طبقا لمصالحها، وبالتالي فالمنظمات الدولية هي منحازة للأقوياء. فأي "مجتمع دولي" هذا الذي يقوم بين الاستعمار بجرائمه ونهبه للأمم الفقيرة وبين هذه الأمم. فالإمبريالية ترى أنها هي التي تمثل العالم ويجب صياغته بناء على رؤيتها هي له، وهذا في أضعف تقدير يعتبر الأمم الأخرى قاصرة ومتخلفة مقارنة بالغرب "الحضاري"!

الديمقراطية التشاركية، السلم الاجتماعي، التدافع السياسي: هذه المصطلحات/ الشعارات هي من نفايات الدعاية السياسية والاديولوجية للطبقة البرجوازية الكمبرادورية، التي تلقفتها أحزاب البرجوازية الصغيرة وراحت تلوكها مقدمة خدماتها للطبقة الحاكمة ومضللة الجماهير. فكيف تكون "الديمقراطية تشاركية" وهي تعبير عن ديكتاتورية الطبقة البرجوازية؟ و"تشاركية" بين من ومن وكيف؟ أليست كذلك دعوات "السلم الاجتماعي" هي دفع للكادحين إلى التسليم بعبوديتهم والرضوخ لجلاديهم والحفاظ على مستنقع العبودية كما هو؟ وكيف يكون ثمة "سلم اجتماعي" في مجتمع تحوز فيه أقلية لا تعمل نتاج عمل الأغلبية تحت شروط الاستغلال والاضطهاد الطبقيين؟ أليس هذا "السلم" هو لضمان تكثيف الاستغلال والنهب وديمومة سيطرة الطبقة البرجوازية الكمبرادورية والحفاظ على علاقة التبعية للإمبريالية؟ أما "التدافع السياسي" فهو عِراك وتجاذب من على نفس الأرضية السياسية وضمن نفس التركيبة الطبقية الحاكمة، وهو محاولة للتمويه عن الصراع السياسي وطمسه بما هو الصراع الطبقي. كما أن مصطلح "التدافع السياسي" يثير درجة من السخرية لأن المقصود به أن ما يحصل في المجتمعات هو تنافر طفيف بين قوى سياسية لا قوى طبقية. إنه إخفاء للصراع الطبقي، وإخفاء الصراع الطبقي يعني تخليد التناقض والاستغلال الطبقيين.
إذن، المصطلحات/ الشعارات الثلاثة الآنف ذكرها لها نفس المحتوى الرجعي ونفس وظيفة القمع السياسي والتضليل الاديولوجي، من أجل إعادة إنتاج نفس علاقات الإنتاج القائمة على نفس علاقات الملكية الخاصة.

عود على بدء:
واضح أن ما وقفنا عنده أعلاه مجرد عينة صغيرة جداً أمام ضخامة هذه الحرب، وهي شاملة ليس المصطلح فيها سوى إحدى تجلياتها ولها أبعاد وتبعات. ولأنها حرب فإن الرد عليها يبقى محدود الأثر ما لم يتبلور ضمن مشروع فكري سياسي جذري، عبر أداة ثورية حاملة له تدير وتقود الصراع على كافة حقول ومستويات التناحر الطبقي.