"بثينة شعبان": الانضمام لجوقة المصفقين!

مروان صالح

"لا شيء يجمعنا سوى هذه القاعة"

معمر القذافي، دمشق ٢٠٠٨

 

قد يختلف الناس والعلماء والفلاسفة والمتخصصون في الدراسات الانسانية والتاريخية حول ماهية الخوف وأثره على الفرد والجماعة، لكنه يبقى وفقا لكثيرين من بين أهم العوامل المحركة للفعل البشري، سلبًا أو إيجابًا ، فرديًا أو جماعيًا. وقد عرف إنسان اليوم المتربع على ميراث ضخم من العلم والتراكمات المعرفية والتاريخية أن انتظامه في جماعات بشرية يرجع لغريزة الخوف. خوفه من الوحدة في مواجهة المتحالفين ضده عن غير عمد؛ فالطبيعة قبل تطويعها واستغلالها عدو، وقطعان المفترسات التي وحدتها غرائزها عدو، والفردانية العاجزة عن الإنجاز عدو. فكانت حتمية التنظيم البشري للتغلب على خوف الإنسان مما حوله، وضرورته للتوسع واكتشاف عالمه ومحيطه. وبعد الانتظام في جماعات تربط بينها عوامل بقاء في حيز ما بمقتضيات يتطلبها هذا البقاء وتفرضها المواجهة مع الطبيعة والأعداء المحتملين، لم يكن بد من إفراز هذه الجماعات قيادات منها لتسيير شئون هذا المجتمع الصغير وتنظيم علاقات أفراده فيما بينهم وإدارة صراعاته وترتيب أولوياته مع الآخرين خارج  الجماعة وحيزها المكاني، وتختلف ظروف فرز القيادات من جماعة لأخرى ومن مجتمع لآخر وفقًا لمراحل صراعات داخلية وخارجية تختلف من بيئة لأخرى ومن جماعة لأخرى. فمهما كانت الطريقة التي أدت لتنصيب القيادة ومهما كان العقد بين المجتمع وحاكمه؛ فالثابت هو الاتفاق الغريزي الذي تفرضه طبيعة الأشياء على درء المخاطر والتغلب على التحديات الوجودية وقتال أي عدو يمثل تهديدا من اي نوع على الناس ونمط عيشهم وأرضهم؛ استقرارا او توسعًا وفقًا لحاكمية الجغرافيا ونمط الإنتاج وطبيعة العصر. وعندما تبدأ المجتمعات بالانتقال من درء الخوف إلى الاستقرار والتنمية ومراكمة الإنتاج والثروة أو إلى التوسع والسعي لزيادة المغانم،بالحالتين؛ تزداد قائمة الأعداء وتتشعب موضوعات العداء ويستدعي كل ذلك شحذ الهمم وتطوير الأدوات المناسبة لإدارة  التحالفات والعداوات. وهكذا سيرة الجماعات البشرية بالماضي والحاضر والمستقبل، تمددا أو انكماشًا. والمتتبع لسيرة البشر والتاريخ يدرك أن أعظم الخطر على أي أمة من الأمم أو شعب من الشعوب أو حتى جماعة صغيرة من البشر في أي زاوية منسية من الكوكب هو غياب العدو؛ فغياب العدو أيًا كان اسمه ومهما كانت طبيعته يُحدِث خللًا بنيويا في طبيعة الإنسان والمجتمع.

 

من بين فضائل عقدي الخمسينيات والستينيات؛ بروز الخطوط ووضوح المعالم؛ فكل حقبة مطبوعة بطبائع قادتها ورجالها؛ كان صوت عبدالناصر كفيل بإخبار الشيوخ والشباب والأطفال من عُمان إلى المغرب بالأهداف وعن الأعداء والأصدقاء .. عن العملاء والخونة مهما كانت صفاتهم أو مواقعهم، والأهم ، بتجميع شتاتهم واستثارة غريزة وعيهم بأنفسهم وبما يجري في الدنيا حولهم. منذ اعتلى حكم مصر حتى مماته لم يتبدل خطابه لكل عربي حوله؛ كانت إسرائيل -وكل ما يؤدي إليها من قول أو عمل - هي العدو، وكان التحرر من الاستعمار هو الهدف، ومحاولة بناء دول ومواطنين لديهم تصور عن أنفسهم وعن أولوياتهم ومحيطهم والأخطار المحدقة بهم ومحاولة تداركها هو الطموح. وما إن رحل عبدالناصر وأُجهِز على المشروع وتبعثرت الأهداف وتاهت الجماعات ؛ حتى اختلط العدو بالحليف، واستُبدل  الأصيل بالرديف وأُزيحت المنجزات والسرديات والكلمات مخلفة تصحر في الوعي تحول لأرض خصبة نحصد اليوم حصيلة ما غُرس فيها بذورًا وفسائل؛ كمًا موفورًا من التشظي والعمالة والتبعية وانعدام ثقة الناس على امتداد الجغرافيا العربية ،بصحاريها ووديانها وسفوحها، بالحكّام فرادى بالقصور .. أو ومجتمعين بالقمم !

 

وحده من بين "أهل القمة" كان العقيد القذافي، رغم قصوره وتقصيره وخطاياه وما قيل عنه وفيه، يحاول لعب دور الطفل في القصة الشهيرة "ملابس الامبراطور الجديدة" للكاتب الدنماركي "هانز كريستيان أندرسون" والتي صارت مثلًا يستحضر لفضح حالة التصالح مع الكذب وعدم انتقاده، لمجرد أنه صار سلوكًا أصيلا والجميع يتعايشون معه. وبذلك كانت الجماهير العربية التي اعتادت هي الأخرى عبر العقود على هذه الحالة التمثيلية للزعماء وتصالحت معها، على موعد شبه دوري مع القذافي لسماع ومشاهدة فقرة "الحقيقة العارية" لعلها تجد بعض العزاء أو تسمع صدى لما يجري لها وما يدور بالعقول ويجيش في الصدور. في إحدى حلقات "مسلسل القذافي" الذي استمر مع الجماهير العربية لأكثر من أربعين سنة، وتحديدًا سنة ٢٠٠٨ بالعاصمة السورية دمشق، التفت القذافي لأمين جامعة الدول العربية وقتذاك "عمرو موسي" وقال: من هم العرب يا عمرو الذين تقول إنهم بحاجة لبرنامج نووي واحد؟

وأردف: نحن أعداء لبعض.. نكره بعضنا.. نكيد لبعضنا.. نتجبر على بعض.. وعدو العربي صديق للعربي الآخر.. ليت الشدة بيننا نستخدمها ضد العدو.. لا شيء يجمعنا سوى هذه القاعة!

وكالعادة، ورغم هذه الصراحة التي تعري أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، وإمعانا في إتقان الأدوار وإخراج العرض بمهنية واحترافية من اعتاد التمثيل، يخرج علينا الأمين العام للجامعة العربية مع وزير خارجية البلد المنظم لإلقاء بيان، ويسمونه إعلانًا إصباغًا لأهمية مفقودة، يتضمن عادة بعض النقاط والقضايا التي تحولت عبر السنين  لكلمات فارغة المضمون تصيب المستمع أو القارئ بالملل واليأس(ما الاختلاف بين مؤتمر عمرو موسى مع وليد المعلم ومؤتمر أحمد أبوالغيط مع فيصل بن فرحان ؟!). ومنذ خطاب القذافي بقمة دمشق ٢٠٠٨ وصولًا الى قمة جدة ٢٠٢٣ جرت في نهر العرب دماء وأشلاء لم ينجُ منها القذافي نفسه الذي مات بطريقة تراجيدية توقعها وتنبأ بها قبل غيره !

وبذلك خسر جمهور المشاهدين أبرز نجوم "أهل القمة" إضافة لتبدل كثير من الوجوه التي ألفها المشاهد العربي عبر السنين.. فانصرف الجمهور تمامًا عن متابعة عروض الجامعة العربية؛ فلم يعد المستوى الإخراجي والتمثيلي والكتابي لديه الحد الأدنى من قوة الجذب، وباتت المسرحية بلا نص والممثلون بلا موهبة والعرض بلا جمهور . وفقد "أهل القمة" آخر ما بقي لهم من تواصل مع الجمهور الذي يجري باسمه ولأجله كل شيء، وتحول العرض المسرحي ،متعاليا على الناس ، إلى مهرجان للنقاد والأكاديميين؛ واقتصر الاهتمام بالقمة وأهلها على الإعلام والإعلاميين والصحافة والكُتّاب، وهؤلاء أيضا بعيون الناس ليسوا في مكان أفضل من مشغليهم ومموليهم سيما بعد  العشرية السوداء التي مرت باسم "الربيع العربي" !

 

سيولة الراهنية العربية وتعقيدها يسمح  لأنظمة حكم على طرفي نقيض بالتسويق لنفس الفكرة أو الحدث ومحاولة التربح منه، بل وبالتدليس على حواضنهم الشعبية وجمهور مؤيديهم والقفز على سنوات من التعبئة خلف سرديات وأفكار بلا أدنى شعور بالمسئولية أو وخز من ضمير تجاه الحقيقة والتاريخ والشعوب التي تعاني الموت والفقر والجوع والفقد والشتات وعدم اليقين، ومن أفلت  من الحروب المباشرة بالسلاح والنار محاصر بمحيط من الدمار وجيوش من الإرهاب  المتنقل من بلد لآخر  حسب العرض والطلب ووفقا لبورصة التوافقات الإقليمية والدولية وأمزجة حكام يديرون شئون البلاد والعباد وفقا للأهواء الشخصية. ولعل ما حدث أثناء/وعلى هامش القمة العربية الأخيرة في جدة، والانعطافات الحادة التي سبقتها، كفيل بترك أي إنسان عربي حاول الإصغاء لصدى الصخب أو لفته التسويق الضخم للمهرجان الذي أقيم برعاية السعودية وعلى أرضها، في حالة دوار من هول التناقضات والسقطات والحبكات المفككة التي لا تنطلي على أكثر الناس سذاجة أو حسن نية !

 

وهنا على الناس أن تتساءل:

  لماذا أنفق حكام الخليج (السعوديون والقطريون والإماراتيون) مئات المليارت لإزاحة الرئيس السوري ما دامت الأمور قابلة للتفاهم والحلول عبر جامعة الدول العربية؟!

  من المسئول عن المآسي التي وقعت في سوريا واليمن وليبيا؟

  لماذا كان كل هذا الدعم الملياري للتجييش الطائفي الذي استنزف المنطقة وصرف شعوبها عن مشكلاتهم الحقيقة وفرَّخ جيوشًا للإرهاب ما دام الأمر مجرد خلافات سياسية يمكن حلحلتها بمجرد توفر النية لدى حاكم السعودية تحديدًا ؟

  ما الذي دفع  رجالات الدولة السورية وأركان الحكم فيها للتراجع عن مواقفهم تجاه حكام الخليج بلا تفسير ولا تبرير،  وكانت اللقاءات بالأحضان الدافئة والابتسامات العريضة لدرجة أن وزير الخارجية السوري قال إن سوريا كانت تحارب الإرهاب نيابة عن كل العرب! في تجاهل للحقائق وعدم احترام لعقلية مؤيديه قبل معارضيه متناسيا أن تصريحات مسئول رسمي سابق كحمد بن جاسم واعترافه بتمويل الإرهاب في سوريا تنسف كل تصريحات المقداد ؟!

 

ما الثمن الذي ستدفعه سوريا مقابل إعادة تدوير  رجالات الحكم فيها وما البديل إن تعثرت سياسة الخطوة مقابل خطوة التي يروج لها الجميع ؟

  هل كل ما جرى مجرد استغلال من الطرفين لجملة عوامل يسخرها كل منهم لصالحه؟ فيعلن بن سلمان نفسه قائدا شابا وقويا وهو الآمر الناهي في كل الشأن العربي؛  فعندما قرر رجوع سوريا رجعت، وعندما قرر التصالح مع إيران تم تبريد كل الجبهات! وراح  بعض المتحمسين وصفه بالقائد المجدد ورأس الحربة  ضد الهيمنة الأمريكية وسفير العرب لدى العالم الجديد الذي سيتشكل! وعلى الضفة الأخرى يستغل الرئيس السوري ما يجرى ليثبت أن سرديته منذ اندلاع الحرب في سوريا وعليها صحيحة وها هو يستعيد مقعده عن جدارة واستحقاق !

 

ويبقى السؤال الأهم: هل سيجد المواطن العربي صدى واجابات لأسئلته البديهية والمشروعة ؟

لعل الزمن وحده كفيل بالإجابة ؛ وبانتظار  الأيام محملة بتفاصيل وأهوال ما جرى فليس أمام المنتظر لإجابات رسمية غير  البحث فيما بين السطور بقراءة الكلمات أو تعلم فنون الفراسة بقراءة لغة الجسد!

 

وفي رحلة البحث استوقفني مقال للدكتورة "بثينة شعبان" نشرته عبر موقع "الميادين" بعنوان: كيف كانت القمة؟

توجست من العنوان بداية ورحت أتساءل عما قد تحمله التفاصيل تحت هذا السؤال ؛ فالسيدة المخضرمة بالعمل السياسي والخبيرة بفنون الكتابة والأستاذة للأدب قبل كل هذا وبعده لن تختار عنوان مقالها عبثًا وبدون قصد! فالسؤال بكيف في هذا السياق قد يعد سؤالا خطابيًا لا يشفي فضول القارئ ولا يرقى لمقام الكاتبة ولا يتناسب مع عمق معرفتها بدواخل الأمور وحقائقها .

وبكل أسف جاء المقال تقريري بامتياز !

إشادة  بالتنظيم والضيافة والمودة والاحترام. وتنويعة على نفس الديباجات والعبارات المعتادة والمستهلكة بهذه المناسبات مثل "العمل العربي المشترك" و "البناء على المشتركات" و "سعي القادة العرب للتخلص من الهيمنة الغربية" وطبعًا "مركزية القضية الفلسطينية"! التي اقتحم المستوطنون(العدو الغائب) أقصاها بالتزامن مع اجتماع "أهل القمة" !

والمفارقة أن الدكتورة "بثينة شعبان" التي تؤكد سعي القادة العرب للتخلص من الهيمنة الأمريكية وقعت في فخ التناقض عندما عرجت على حضور الرئيس الأوكراني للقمة العربية واصفة ذلك بالمحاولة الفاشلة من الغرب لإثبات وجوده وتأثيره! فلماذا حضر "زيلنسكي"  إذا كان القادة العرب يسعون حقا لتقويض الهيمنة الغربية ؟! وكيف فشلت المحاولة رغم حضور الرجل؟!

 

واختتمت المقال التقريري مشيدة بما أسمته"الإعلام المنتمي" ودوره الإيجابي في مسار التعاون العربي المشترك وبهذه الفقرة : "صناعة التاريخ تحتاج إلى وقت قبل وبعد انبعاث الوعي وشحذ الهمم، واليوم نستطيع أن نقول إن ما كنا نحلم به من وعي العرب لمقدراتهم واستقلالهم الحقيقي ووزنهم الإقليمي بدأ يتبلور. ومن الجميل أن تكون انطلاقته من بلد عربي له وزنه في ضمير العرب والمسلمين وله تاريخه في الإنجازات التي تتحقق حالما تشبك السعودية وسوريا يداً بيد مع كل البلدان العربية الأخرى التي تتشاطر الإدراك والعزيمة على بناء مستقبل واعد لأجيالنا".

 

وهنا أتفق مع الكاتبة بأن صناعة التاريخ  تحتاج إلى وقت قبل وبعد انبعاث الوعي وشحذ الهمم. ولكن يبرز السؤال البديهي: كيف ينبعث الوعي وتشحذ الهمم بلا معلومات وكشف حساب حقيقي والإجابة عن الأسئلة البديهية: ماذا حدث ولماذا حدث وكيف حدث ومن المسئول؟ وإن لم يترك أمثال الدكتورة "بثينة شعبان" إجابات للأجيال القادمة فمن يفعل؟!

وعن بداية تبلور "وعي عربي" وانطلاقه من السعودية وبداية مستقبل جديد للعرب عبر الشراكة وتشبيك الأيدي مع سوريا وباقي الدول العربية فلا تعليق إلا بالتساؤل: هل تصدق الدكتورة "بثينة شعبان" ما خطه قلمها ؟!

 

وبعد..

فقد انطلقت كمواطن عربي قبل أيام في رحلة بحثية بين المقالات والتقارير ممنيًا فضولي وشغف المعرفة بالرجوع بقبس من نور الوعي والمعرفة قد يمن به علينا (نحن سكان السفوح والوديان والقيعان، قطعان البشر المتناثرة على غير هدى أو دليل) "أهل القمة" من الساسة أو الصحفيين أو المفكرين والمثقفين؛ الذين يتولون أمورنا ويقودون قطعاننا قسرًا أو عن تراضٍ( يجب أن يُكتب "في مديح القطيع" ودوره في التاريخ)، لكني رجعت محمل بمرارة التدليس ومتخم بشعور الضياع  أعاني دوار "التيه العربي" الذي التهم أعمار أجيال! أتأمل فيما فات من قمم وعروض سياسية هزلية وأقارنه "بمهرجان بن سلمان" في جدة فلا ألحظ أي فارق جوهري يذكر رغم بؤس ما جرى ! فترسخت قناعتي مع قراءة الدكتورة "بثينة شعبان" أنها ارتكبت جريمة التدليس، وخلط الأوراق، وتغييب العدو -أيًا كان اسمه - وطمس معالم جريمته والالتحاق بركبه، ولم تلتزم بالحد الأدنى من الأمانة التاريخية والسياسية مع مؤيديها قبل المعارضين! وعلى أقل تقدير كان عليها ألا تنضم لجوقة المصفقين بـ"مهرجان بن سلمان" ؛ والإجابة عن السؤال:

لماذا كانت القمة؟

عوضًا عن:

كيف كانت القمة ؟!