عن القوات المسلحة السودانية والسياسة (١)

ايمن قاسم

 

التاريخ السياسي لأنظمة الحكم المتعاقبة في السودان، وفي أغلبية بلدان المنطقة، يؤكد العلاقة الوثيقة بين هذه الأنظمة وجيوش بلدانها. صحيح، الجيش السوداني بدأ مشواره عقب الاستقلال كبوتقة قومية تنصهر فيها كل مكونات السودان الإثنية والقبلية، وكانت قيادة الجيش تطلب دوريا من زعماء القبائل تجنيد عدد من شباب القبيلة للجندية، مراعية لتوازن دقيق بين أعداد المجندين من القبائل المختلفة. وكانت فلسفة التأهيل والتدريب في الجيش تقوم على فكرة انصهار الجميع في هذا الوعاء القومي. ومع ذلك، ظل الجيش السوداني، ومنذ سنوات الإستقلال الأولى وحتى اللحظة، فاعلا سياسيا يمارس السياسة ومنغمسا في كل تفاصيلها(١)

 

تشير عدد من الدراسات إضافة للسلوك العملي إلى أن انخراط العسكريين في العمل السياسي في السودان قد صاحب تكوين المؤسسة العسكرية السودانية منذ نشأتها وظهرت الروح الوطنية بقوة وسط الضباط السودانيين في الجيش المصري كما الجمعيات السرية مثل جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض وتجلت تلك الروح لي ثورة 1924 التي كانت تنادي بشد بالخلاص من الإستعمار والوحدة مع مصر إلا أن تأسيس قوة دفاع السودان وقيام الكلية الحربية كان على أساس بريطاني قوامه التربية العسكرية الصارمة التي تفرق بشكل حاد وقاطع بين المجالين العسكري والسياسي وترعرع الجيل الأول الذي تلقى تدريبه على أيدي ضبابط بريطانيين في ظل هذه الثقافة العسكرية (٢)

 

التنظيمات العسكرية السرية التي نشأت داخل القوات المسلحة السودانية

في أربعينات القرن الماضي برز الصراع بين القوى السياسية السودانية حول مسألة مصير السودان المستقبلي بين شعار السودان للسودانيين الذي رفعته الأحزاب القومية السودانية كحزب الأمة القومي وشعار (وحدة وادي النيل ) الذي رفعته الأحزاب الاتحادية ولكن مع تراجع الحزب الوطني الاتحادي عن الأساس الذي تشكل عليه وهو الوحدة مع مصر واتفاقه مع حزب الأمة القومي الداعي لاستقلال السودان عن كلا من دولتي الحكم الثنائي واستقلال السودان بالفعل في مطلع يناير 1956 كان ذلك الخبر بمثابة نكسة كبرى لقطاعات واسعة من ضباط ثورة يوليو 1952 وعقب هذه الخطوة التي أفضت إلى استقلال السودان شرع النظام المصري في التغلغل في داخل القوات المسلحة السودانية لاستقطاب بعض ضباطها مما دعى وزير الدفاع السوداني في ذلك الوقت البكباشي خلف الله خالد لأن يتهم علنا مجلس قيادة الثورة المصري بالإيحاء ليحذوا حذوهم بالاستيلاء على السلطة في السودان وقد أثار حديث وزير الدفاع السوداني اصداء قوية في السودان وتعليقات معادية لمصر في أجهزة الإعلام والصحف السودانية

وفي وسط تلك الأجواء المشحونة قرر الصاع عبد الرحمن كبيدة في العام 1957 وباسم الضباط الأحرار السودانيين متأسيا بثورة يوليو 1952 يوم 31/5/1957 حسب المعلومات التي وردت للقيادة العامة للقوات المسلحة السودانية موعدا لتنفيذ انقلابه إلا أنه اعتقل وأعدم في محكمة عسكرية ترأسها الاميرلاي العميد محمد عثمان نائب القائد العام للقوات المسلحة السودانية (٣)

 

انقلاب 1958 بقيادة الجنرال ابراهيم عبود أول انقلاب عسكري على نظام سياسي ديمقراطي في السودان

في العام 1958 أجريت اول انتخابات في السودان بعد نيله إستقلاله واتسمت بالشفافية والنزاهة على عكس كل الإنتخابات اللاحقة وتفوقت فيها كتلة جنوبية سياسية متحدة كانت تعرف ب (الأحرار الجنوبي ) كما شاركت فيها أيضا الجبهة المعادية للاستعمار واجهة الحزب الشيوعي السوداني وحصل فيها على حزب الأمة القومي على اكبر عدد من المقاعد في البرلمان خلفت التناقضات الداخلية في البلاد إضافة إلى التناقضات الخارجية بين المحورين الغربي والشرقي وانقلاب تموز 1958 في العراق وتأسيس الجمهورية العربية المتحدة كائتلاف بين مصر وسورية جوا سياسيا مشحونا بالسودان أدى هشاشة بالوضع الداخلي وافضى إلى تسليم السيد رئيس الوزراء عبد الله خليل بك للقائد العام للجيش ابراهيم عبود ليقوم بتلاوة بيان عبر التلفزيون الرسمي يعلن فيه حل الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية والنقابات ومصادرة الصحف ولكن لم يستمر ذلك الانقلاب طويلا حتى هبت رياح ثورة أكتوبر 1964لتعيد احياء الحياة المدنية السياسية حيث كانت قيادة الانقلاب متوازنة جدا في علاقتها بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إضافة لتأسيس عدد من المشاريع

 التنموية وقصور واضح في إدارة الأزمة في جنوب السودان فعندما قرر إتحاد طلاب جامعة الخرطوم تنظيم ندوة بصدد الأزمة في الجنوب لقي هذا المسعى معارضة كبيرة من السلطات التي قامت باعتقال أعضاء مكتب إتحاد الجامعة ليقوم الطلاب بتكوين لجنة بديلة عن الاعضاء المعتقلين وهو أمر يؤكد على تطور وعي الحركة الطلابية وتنظيمها ووصول النظام إلى علاقته بإحدى فئات المجتمع السوداني إلى نقطة النهاية وهو شيئ كان ينذر بالخطر على النظام الذي واصل في تعامله العنيف الاهوج مع الطلاب لدرجة مقتل الطالب أحمد القرشي طه تلك الحادثة التي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير وأدى إلى اشتعال الثورة التي أطاحت بالنظام

مايو 69 !!!!!!!

لكن لم يستفد الساسة من تلك الثورة ومن أخطاء الماضي حتى عاد جو التشاكس والصراع يسود بين الأحزاب السياسية في قبة البرلمان ولعل كان أبرز تلك الخلافات حادثة حل الحزب الشيوعي السوداني والاعتداء على داره المركزية بالخرطوم 2 ليعود السودان إلى نفس النقطة التي كان بها قبل ثورة 1964 وهي عودة النظام العسكري الاوتقراطي عبر انقلاب مايو 1969 بقيادة العقيد جعفر نميري ذاك النظام الذي عرف باإنتقالاته البهلوانية من أقصى اليسار الى أقصى اليمين في 16 عاما شهدت فيها البلاد الكثير من الأحداث تقطعت فيها اوصال الديمقراطية لتبدأ بعدها عذابات الدولة ورحلاتها السيزيفية مع مؤسسة عسكرية لا تريد ترك السياسة ثم تأتي انفراجة أخرى في العام 1958 وهي ثورة مارس ابريل التي كانت تعد قبلة الحياة للديمقراطية والتعددية السياسية بالرغم من حالة المكايدات والصبينة السياسية والحرب المستعرة في جنوب السودان وحالة التردي السياسي وشظف العيش لتجد الشمولية العسكرية في العام 1989 منفذا جديدا إلى دخول الباحة السياسية ولكن هذه المرة تاتي بوجه إسلامي يميني بقيادة من الجبهة القومية الإسلامية الذي سقط هو الآخر ضمن احتجاجات شعبية طالت الخرطوم العاصمة وبعض المدن الرئيسية ضمن سلسلة جديدة من ثورات الربيع العربي بدأت في تشرين 2018 بالعراق ولبنان إلى ديسمبر من نفس العام بالسودان ومنها إلى الجزائر

 

هذا هو باختصار التاريخ السياسي لهذه البلاد ثورة شعبية ثم انقلاب عسكري تعقبه ثورة فانقلاب والان يكمل السودان العقد السادس من عمره وهو لا يزال يعيش طورا من أطوار أزمته الوطنية التي كان أبرز عناوينها عدم استقرار النظام السياسي فالمتتبع لتاريخ السودان الحديث يجد أنه عاش تحت أنظمة عسكرية أطول بكثير مما عاشه تحت أنظمة مدنية منتخبة فعلا باعتبار أنه لم يهنأ بحكومة مدنية أكثر من عامين أو ثلاث غالبا ما انتهت تلك الحقبة المدنية المؤقتة باضطرابات ونزاعات سياسية تؤدي عدم استقرار وتدهور اقتصادي يستدعي تدخل الجيش وكأن تلك الحقب المدنية بمثابة درس من القوات المسلحة للشعب وأحزابه وقطاعاته المدنية بأنهم عاجزون عن إدارة أنفسهم مواجهة التحديات ومفتقرون لادوات إدارة البلاد

 ...................

(١) الشفيع خضر الجيش والسياسة في السودان صحيفة القدس

(٢) الديمقراطية والاثنية في السودان

(٣) الجيش والسياسة في السودان مذكرات العميد عبد الرحمن خوجلي

 تنويه: المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة أن يعبر عن رأي اشتباك

يمكنكم المشاركة بكتابتكم على موقع اشتباك عن طريق إرسالها على البريد الالكتروني لموقع اشتباك عربي : eshtebakpage@gmail.com

او عبر التواصل معنا عن طريق صفحة الفيسبوك